كومة أحجار ولا هؤلاء المثقفون العرب
هيفاء زنكنة
2011-11-11
كان
حلم العراقي المغترب/ المنفي ان يعود الى وطنه. وكان حلم المثقف ان يعود
ليساهم في بناء وطنه فنا وشعرا وأدبا. الا ان عودة الاغلبية لم تر النور،
فبقوا اينما كانوا، بل وازداد عدد المهجرين الى البلدان العربية والاسلامية
والغربية، في اعقاب الغزو عام 2003، حتى وصل الملايين. وارتوت تجارة
التهريب من الاعداد المتزايدة من الهاربين حرصا على حياتهم واحتراما
لكرامتهم. صارت نسبة المثقفين خارج حدود الوطن أكبر بكثير من داخله، ولو
اتيحت الفرصة لمن بقى لاختار الرحيل من 'العراق الجديد'.
العراق الذي
طبل المحتل وزمر، ومعه مستخدموه العراقيون الصغار، لحرية الرأي والكتابة
والابداع التي ستزدهر فيه. فكانت النتيجة انهيار التعليم والصحة وهما اساس
بناء العقل، واستهدف حق الحياة وتفتت مابقي من الوعي الثقافي مثل حجر رملي
يتناثر مع اتجاه الريح. واتجاه الريح جعل بعض المثقفين التكنوقراط يكتبون
ويرسمون ويفكرون وهم يسبحون بالولاء لهذه المرجعية او تلك (ليس بالضرورة
مرجعية دينية بل مرجعية من يدفع بالقطعة). في زمن القحط العقلي هذا، يفرح
'الفنان'، حين يتلقى من متعهد احتلال بضعة دولارات ليرسم مناظر من تاريخ
العراق القديم على جدران العزل الكونكريتية التي بناها الاحتلال، كما في
فلسطين، لتمزيق لحمة الشعب، ثم يقدمها باعتبارها فنا يبعد عن الناس كآبة
الواقع.
فلماذا لايحاول الفنان، مع الآخرين، المساهمة في تغيير الواقع
البائس، بدلا من تزيينه بألون زاهية؟ وهل تنفع اضافة البهارات الى وجبة
الطعام الفاسدة؟
ألن يؤدي ذلك الى التسمم أو تزوير الوعي؟ كيف يعرض
الفنان الذي يرى الخراب محيطا به (ويعرف من الذي سببه) اعماله داخل السفارة
الامريكية، مقر مجرمي الحرب الذين يتوجب تقديمهم الى العدالة لا مكافأتهم
كراعين للآداب والفنون والابداع ولايشعر بطعم الليل الاسود يتكدس في الفم
ولايتساءل مع الشاعر التشيلي بابلو نيرودا في قصيدة له: لمَ الموتى؟
كيف
ينظر المواطن الى الأغلبية الصامتة (لن أقول المتواطئة) من المثقفين
العراقيين، ازاء الاحتلال وجرائمه، سواء كانوا داخل العراق او خارجه، وهم
الذين بنى آماله عليهم ليكونوا صوته، بينما تتعالى اصوات المثقفين الاجانب،
في طول الارض وعرضها ادانة لجريمة العصر الكبرى التي لا يماثلها غير
احتلال فلسطين؟ فمن الهند، تواصل الروائية المشهورة ارونداتي روي كتاباتها
عن كارثة الاحتلال الامبريالي وهي تحيي المقاومة العراقية، بينما يدور
الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو بلوحاته الخمسين عن جرائم التعذيب
والامتهان الانساني في ابو غريب، في ارجاء المعمورة فاضحا مقياس 'الاخلاق'
الامبريالية.
وتطول قائمة الشعراء الغربيين المناهضين للاحتلال
والاستعمار لتتجاوز الآلاف. وتقوم مجموعة المحامين الدولية للدفاع عن حقوق
الانسان، بلندن، بتنظيم محاضرة سنوية في ذكرى وفاة الشاب بهاء موسى الذي
توفي نتيجة تعذيب القوات البريطانية له. وكلهم يكتبون ويحاضرون بلا مواربة.
يسمون الاحتلال احتلالا وجرائمه ابادة والمقاومة حقا قانونيا وشرعيا، فلم
يختبىء المثقف العراقي وراء قشة ' محاربة الارهاب' و'القوى الظلامية'؟
وماهي 'القوى النورانية' التي جلبها المحتل معه؟ واذا كان للمثقف الموجود
داخل العراق عذر، اذ استهدف كاتم الصوت البعض فارتاع الكل، فما هي حجة
المتواجدين في الخارج؟
من المعروف ان أكثر من ستين بالمئة من مثقفي
العراق هم خارجه، معظمهم من الصامتين الذين قلما يشاركون في نشاط جماعي عام
او فردي تحريضي او تعريفي لجلب الانظار الى حجم الكارثة التي يعيشها الأهل
في العراق، فهل هو الهم الكبير الذي يحملونه أم التوجس من سلطات أمن البلد
الجديد؟ أو لعله تعمد نسيان العراق حفاظا على سلامة العقل لكثرة وسرعة
وعمق التغيرات التي وصلت حد التكفير والاقتتال دما باسم بالطائفة والمذهب
والدين؟ هل هذه الاسباب (من منا لا يحمل سلالا من خيبات الامل
والانكسارات!) مبررة للصمت عن قضايا يراها حتى الامبرياليون ملتصقة بوجودهم
واعمق مشاعرهم كالوطنية ؟ ماذا جرى للمقولات التي تربينا عليها مثل
'المثقف هو وعي الامة' و'مسؤولية المثقف الاجتماعية والسياسية' و'المثقف في
مقدمة مسيرة التحرير'؟
بامكاني، على الاقل، الاجابة على التساؤل
الاخير، على ضوء انتفاضة الشعوب العربية، في العام الحالي. حيث لم يعد
للمثقف عموما ذات الموقع الذي احتله في حركات التحرر الوطني، أو في بداية
عصر النهضة الأخيرة عندنا قبل قرن عندما كان ينظر الى المثقف 'الافندي'
باعتباره من طبقة متميزة من الناس لأنه يستطيع القراءة والكتابة في مجتمع
يعاني، بشكل عام، من الأمية. والمصيبة الأكبر، الآن في خضم التغيرات
السريعة وانتفاضة الشعوب، ان المثقف صار اما مترنحا كالسكران في مؤخرة
المسيرة او واقفا كعثرة طريق في مسارها. في كلا الحالتين، لم يعد له ذات
الدور الذي طالما تباهى به. من الواضح للجميع، عداه هو نفسه، ان الزمن
والحدث قد تجاوزاه في عصر توفر وانتشار ادوات التواصل الاجتماعي وتجاوز
الشباب حاجز الخوف من الكتابة باللغة العربية خشية ان يرفع المنصوب او يجر
المرفوع. كما تجاوزه الزمن بعد ان اصبح جزءا لايتجزأ من منظومة السلطة
المعقدة التي تحمل في داخلها ما يبدو سطحيا ضدها من احزاب تقليدية فكرا
ومنهجا بعد ان قضيا عقودا بمواجهة بعضهما البعض في نسيج يتخلله الفساد
والتنافس على رضا القوى الخارجية. فصار المثقف يحذر، كما تفعل السلطة، من
التغيير خشية 'الفوضى'.
اما التساؤل عن مصير مقولتي 'وعي الأمة'
و'مسؤولية المثقف التاريخية' فيقودنا الى ما كتبته سابقا عن ضرورة اعادة
النظر في هذه الطروحات التي ساهمت في تضخيم أنا المثقف من جهة واسبغت عليه
منزلة أعلى من بقية ابناء الشعب رهانا على دور مارسته قلة من المثقفين في
حقبة زمنية ماضية. هذه المنزلة استفاد منها 'المثقف' لمقايضة المناصب
والالقاب في ظل الانظمة الاستبدادية، الشمولية، على حساب بقية ابناء الشعب.
ويستفيد منها 'المثقف' حاليا للمقايضة في ذات السوق، أو في أحسن الاحوال
يجلس جانبا كمتفرج في ملعب لكرة القدم. ان النظر في دور المثقف وتقييمه
يقتضي اعادته الى حجمه الطبيعي، كفرد، كواحد من ابناء الشعب، كمواطن له من
الواجبات وعليه من المسؤولية ما لبقية المواطنين وعليهم. وقد يكون في اعادة
التقييم هذه تحرير له ولنا.
' كاتبة من العراق