هل تتذكرون تلك الصورة التي تعاود اجهزة الاعلام، المحلية والعالمية، بثها، لترسيخها في الوعي الجمعي للشعوب والتي اريد لها خلق لحظة تاريخية ترتبط، أكثر من سواها، بموقف الشعب العراقي من احتلال بلده وعاصمته بغداد ؟ صورة جندي الاحتلال وهو يرفع العلم الامريكي، رمز الانتصار العسكري و' سقوط ' بغداد، عاليا في ساحة الفردوس، على مرأى العالم كله بعد ان تم تحويل الساحة، حسب سيناريو مسبق تم الإعتراف به فيما بعد، الى استديو لنقل البث الحي الى ارجاء المعمورة؟
هذه الصورة، وليدة التغيير القسري من قبل اكبر قوة عسكرية في العالم وتسخير أكبر ماكنة اعلامية، حاول عدد من الشباب العراقي بعد إعلان جلاء الإحتلال تغييرها. اعادة تقديم الصورة بألوانها الحقيقية.
واطلق على الشباب صفة الفدائيين لعدة اسباب من بينها مخاطرتهم بحياتهم للقيام بعملية سلمية لا تريد سلطات الاحتلال واجهزتها القمعية لأحد ان يشير اليها بطريقة تختلف عما يروجونه، كمحاولة لتصنيع ذاكرة جماعية مزيفة. اذ توجهت مجموعة من الشباب، من الحركة الشعبية لإنقاذ العراق، بينهم خمس نساء تتقدمهن السيدة أم عمار الملقبة بخنساء العراق، الى ساحة الفردوس يوم 30 /12 / 2011، بعد ان قاموا بتوزيع البيانات، بكل السبل المتوفرة، ودعوة اجهزة الاعلام، للاحتفال بما اطلقوا عليه اسم 'جمعة الهزيمة أي' الجمعة الأخيرة لتواجد اغلب القوات الأمريكية العسكرية التي انهزمت من العراق مذعورة بسبب بسالة المقاومة العراقية وليس كما صورت لها حكومة الاحتلال بأنه يوم الوفاء لهم'.
وكانت الحركة الشعبية لإنقاذ العراق واحدة من المجموعات التي واظبت على التظاهر السلمي في ساحة التحرير ببغداد، مواجهة ومتحدية التهديد والاعتقال وتكميم الاصوات المطالبة بالحرية والكرامة، اسوة بتظاهرات بقية المدن العربية، منذ 25 شباط/ فبراير 2011. وقد وجه الشباب نداء الى اجهزة الاعلام للحضور والوقوف مع الشباب لتقيهم ' شر القوات الأمنية التي كان متوقعا أنها سوف ترتدع بوجود الإعلام' ولم يستجب من بين ثلاثين فضائية عراقية وأكثر من مائة فضائية عربية غير قناة الرافدين العراقية وإذاعة في اسبانيا ناطقة باللغة العربية ومحطة سي أن أن الأمريكية.
وكان عدد القوات الأمنية أكبر بكثير من المتظاهرين حيث وصلت قوات من الشرطة الاتحادية ومكافحة الشغب وقوات الفرقة الأولى وعلى رأسها قائد الفرقة العميد الركن عماد علي عبد فارس والعقيد عقيل الساعدي والعقيد كريم حسيب الشمري ومجموعة كبيرة من الضباط الصغار مع جنودهم، فبدوا وكأنهم يخوضون حربا ضد قوات عسكرية مسلحة وليس مجموعة من الشباب المسالمين. مما دفع مراسلة السي أن أن الى التساؤل عما اذا كانت هناك حرية تعبير فعلا في العراق؟ وكان هذا هو مضمون تقريرها الذي بثته القناة فيما بعد.
قامت القوات باعتقال الفنان التشكيلي ضرغام حسين بسبب هتافه ضد أمريكا وذيولها. ونجح شابان هما سعود الخفاجي وضرغام الزيدي في تسلق المنصة العالية في وسط ساحة الفردوس حيث تم حرق علم المحتل الامريكي ورفع العلم العراقي، في حركة رمزية تؤرخ لهزيمة الاحتلال وقلب الصورة الاعلامية السابقة التي أريد لها البقاء محفورة في الاذهان عن سقوط العراق وانتصار المحتل.
ويشير بيان الحركة الشعبية الى مفارقات مضحكة مبكية تبين روح الاستخذاء التي احتلت عقلية ساسة العراق. اذ وافق العميد عماد علي عبد فارس على حرق العلم العراقي معترضا بقوة على حرق علم المحتل، قائلا: 'إسمعوا يا شباب اذا أردتم حرق علم بلدكم فانتم احرار فهذا علمكم اما العلم الامريكي فأنا هنا لمنعكم بأمر من السيد القائد العام للقوات المسلحة وسوف نقطع الايدي التي تمتد اليه'. وحين رفض الشباب ومن بينهم عدي الزيدي والصحافي ميناس السهيل هجم عليهم العسكر وهم يضربونهم بالهراوات واعقاب البنادق ثم نقلوا إلى سجن مركز السعدون لتتم محاكمتهم بتهمة حرق العلم الامريكي خلال الشهر الحالي.
ان ما قامت به مجموعة الشباب يوم جلاء قوات الاحتلال لن يضع حدا للاحتلال بأشكاله وليس في الامكان وصفه بانه ثورة او انتفاضة شعبية. الا ان من الضروري تقييمه كفعل رمزي للاحتفال بهزيمة المحتل، وفعل تحد لسلطة قمعية، وتصحيح لصورة اعلامية يروجها المحتل على ان غزوه العراق 'تحرير وليس احتلالا'. ان لهذا الفعل المجازف بحياة القائمين به، محاولة جريئة لاعادة امتلاك وتنظيف فضاء دنسه المحتل.
هذا الفعل الرمزي مهم لأنه سيخدش تدريجيا سطح الصورة الاعلامية التي يواصل تقديمها ساسة حكومات الاحتلال عن 'ديمقراطيتهم' و'وطنيتهم'. كما سيمحو، من خلال التراكم الكمي لمثل هذه الافعال، صورة 'سقوط بغداد' المنافية لطبيعة بغداد التاريخية والتي يحملها ويحميها اهلها، وكل من حدث وزارها او درس فيها او اقام فيها ولو لفترة قصيرة، في عمق الذاكرة.
ان الذاكرة الجماعية نتاج تراكمي لتفاعل الفرد ليس مع مجتمعه فحسب ولكن، ايضا، مع البيئة الجغرافية المحيطة به ومنها الأماكن بعمرانها ومعمارها وطابوقها وتربتها ورائحتها. فمن منا ينسى رائحة ملامسة اولى قطرات المطر للتربة العراقية ؟ ان لشوارع المدن التاريخية وساحاتها ودرابينها ذاكرة جماعية. لاتولد اعتباطا بل يساهم سكانها، في علاقة ديناميكية بين الناس والمكان، على تكوينها ورعايتها وحملها، على مدى عصور، مهما كانت الظروف قاسية ومهما حاول البعض سواء من سكان البلد انفسهم أو الغزاة والمحتلين فرض بدائل قسرية عليها. ان هذه الذاكرة الجماعية، كما تقول تراكي زناد، الباحثة التونسية في علم الاجتماع، في مقدمة كتابها 'ذاكرة المعيش': 'لا يمكن سرقتها، كما لا يمكن اقتراضها، فهي حيّة، وصامدة ومنيعة، وتجرّد الواقع من ماديته السطحية والعابرة ... قد يمثل المكان الذي تعيش فيه مجموعة معينة لحظة فريدة وتاريخا خاصا وتجربة اجتماعية. ولكنه يمثل بالأساس ذاكرة جماعية..وهي ذاكرة محصّنة'. ولبغداد، عاصمة عراق التاريخ والحضارة، المدينة المدورة، مدينة السلام التي اراد المحتل ومستخدميه فبركة ذاكرة آنية لها، ذاكرة محصنة تنفض عنها شوائب الاحتفال بالاحتلال والطائفية، ولن تسكن يوما ولن ترضخ على الرغم من الثمن الغالي الذي تدفعه يوميا، لأنها اقوى من ان تخون ذاكرتها الجماعية، ذاكرة اهلها الرافضين للعبودية والظلم، ومنهم شبابها رافعو العلم العراقي في ساحة الفردوس.
' كاتبة من العراق