بقلم: ليث العبدويس
المدينة دخلتْ أعلى حالات الإنذار، والايحاء بتهديد حال وشيك ينتشر كنار في هشيم او كهبة حريق وسط دغل جاف، أفواه المدينة تجتر مخاوف تنتشر كوباء غامض، مئة ألف مجند ساذج متثائب يهرعون بتثاقل وكسل لصبغ التقاطعات والحواري والازقة بألوان بزات التمويه ويعكرون هدوئها بقرقعة السلاح الشاكي.
الشوارع مقطعة الأوصال، الجسور منحورة الاعناق، الساحات مقفرة، الحدائق خالية، العاصمة بأسرها تمر بتجربة الاحتضار وسكرة النزع قبل الأوان، الآف كاميرات المراقبة المبثوثة كبثور الحصبة تحصي على البغداديين أنفاسهم وترقب بعيونها الجاحظة الدوارة كل الشوارد والحركات والسواكن، تمسح العربات والأرصفة وواجهات المحلات ولوحات التسجيل وصناديق القمامة وجثث الغدْر اليومي وحقائب النسوة وأكياس التبضع ووجوه المارة ومشاكسات الصغار، تفتش عن عدو خجول منطو سبق كل هذا اللغط ففظ مبكرا ورق التغليف عن هداياه المميتة.
بغداد – كما هي منذ تسع سنين – في حالة تأهب قصوى، تحتسب لطارئ قدْ ينقض عليها من الجدران او تنشق عنه الارض او يهبط من السماء، تحاول بجهد جهيد أنْ تطبع على وجهها ابتسامة مصطنعة تستقبل بها ضيوفها المرتقبين، تقيم لهم معبرا اسفلتيا آمنا معبدا بالخوذ والدروع ومخازن الذخيرة، تؤويهم في خيمة من الترسانة والاسمنت والفولاذ.
بغداد تجتاز البعد الآخر، تخرق الجدار الفاصل بين الممكن والمستحيل، بين الظاهر والمتواري، بين المكشوف والمختبئ، بغداد تزيح لزائريها الغلالة التي يتوارى خلفها عالمها الخاص، توزع على أصحاب السيادة والجلالة والنيافة دليل معالمها المجاني، معالم ما بعد التسوير والتدوير والتكعيب والإحاطة، ودزينة من البذلات المضادة للرصاص والنظارات المانعة لتسرب الوجع والشفقة.
بغداد تلقي على اسماعهم محاضرة تعريفية عن الأسرار التي بها ستبوح وعنها ستكشف، بغداد تخشى أنْ ينسل طفلٌ أطاحت الحرب بإحدى ساقيه، وفقئتْ إحدى عينيه، والتهمتْ كلتا أبويه، ليبصق في وجوه الوفود المدهوشة، تخشى أنْ تتسرب من شقوق الكونكريت الصلد عصارة البؤس والصديد لتلطخ أربطة العنق الدبلوماسية الأنيقة.
حاضرة الرشيد أسيرة، والشعب مصفدٌ بالحديد خلف القضبان، حظر تجوال وعطلة إجبارية، والحياة انسحبتْ مرتجفة الى ملاذات البيوت تتصنع الانشغال وتعلك النكات اللاذعة، ترتشف الشاي وتمج السجائر وتغلي بهموم يومية، والقمة تقبع في ذيل الاهتمام وراسب الاكتراث، سرعان ما ستطوى كما نشرتْ، وتأفل كما انبلجتْ، فحكام العرب قدْ سئموا رتابة الأوامر بأطلاق الرصاص على المتظاهرين وتحريك الأسراب على المنشقين وتوجيه المجنزات نحو القرى لسحق المحتجين، العرب أتوا للتنزه والترويح والاستجمام في باحة سجننا الخلفية، وتنشق نسيم الديمقراطية، فهلا اظهرنا بعض الخصال اليعربية؟
حللتم اهلا ونزلتم سهلا وطبْتم وطاب ممشاكم، سنقف كالدمى خلف الأسوار العالية من حيث لا ترونا ولا نراكم، نصدح بنشيد الوحدة ونرفع لافتة التضامن ونلعن القطرية والشعوبية والتغريبية والإنعزالية، أولسنا أمة عربية؟ فاشربوا سادتي إذن نخب قمتنا العربية، نخب نكران الهوية، وتناسي الضحية، مادام أنها.. لا تفسد للود قضية