لم يكن في ذهن لواء الشرطة المتقاعد عدنان نبات ان يأتي يوم يتذكره أحد وكلائه ممن عمل تحت امرته عندما كان يشغل وظيفة ضابط أمن الهندية (طويريج) وهو برتبة نقيب في منتصف السبعينات من القرن الماضي، ويقتحم عليه منزله في حي (السيدية) ببغداد ويخطفه تحت تهديد السلاح وينقله الى المدينة الريفية التي كانت مسرحا لتعاونهما (الامني) ويقتله هناك بطريقة بشعة ويمثل بجثته !
ولكن هذا ما حدث بالفعل، وتفاصيله كما أكدته الوقائع والتواريخ وافادات الشهود التي جمعتها وتابعتها (العباسية نيوز) تشير الى ان ضابط امن طويريج في عام 1977 النقيب عدنان نبات كان يبحث عن وكيل يوافيه باخبار وانشطة رجل دين شيعي يقطن المدينة يدعى الشيخ حسين معن كانت الاجهزة الامنية تشتبه بكونه احد قياديي حزب الدعوة ولكنها لم تنجح في كشف ذلك رغم مراقبته والتضييق عليه واستدعائه اكثر من مرة واخضاعه الى التحقيق.
كان ابن الملا معن، كما يسميه أهل طويريج، حذرا ومنتبها في آن، قليل الكلام ويميل الى العزلة ولا يحب الثرثرة والجدل في القضايا الدينية، حتى لا يثير الانتباه اليه، وكان يقضي جل وقته بين منزله الصغير على شط الفرات وحسينية البلدة القريبة من بيته وفي بستان ورثه عن ابيه الذي كان وكيلا للمرجع الشيعي الاعلى محسن الحكيم، في حين تفيد التقارير الامنية التي ترد الى النقيب عدنان من الحلة والنجف وكربلاء بان معلومات غير مكتملة تشير الى ان حسين معن له علاقة ما بحزب الدعوة وان اعترافات عدد من الموقوفين والمعتقلين المرتبطين بالحزب متناقضة بخصوصه.
ومما زاد في حيرة ضابط الامن أزاء هذه الشخصية الملتبسة على دائرته انه استفسر عنها القيادي البعثي في محافظة بابل ضياء يحيي علي وهو من آهالي طويريج أصلا فنفى علمه بعلاقة ابن الملا معن بحزب الدعوة وربما استبعدها واحاله الى شقيقه ستار مفوض الامن في الحلة فهو أعرف منه بذلك، وجاءت المفاجأة ان الاخير أي المفوض ستار نفى تلك العلاقة تماما وامتدح الشيخ حسين عندما سأله النقيب عنه مؤكداً انه انسان متدين درس في الحوزة النجفية وليست له اهتمامات سياسية.
ولم تقتنع دائرة أمن المحافظة ولا مديرية الامن العامة بتقارير النقيب عدنان (الايجابية) عن الشيخ حسين، واقترحت اعتقاله وارساله مخفورا الى الحلة للتحقيق معه، ولم يكن امام ضابط الامن غير تنفيذ الامر فاستدعى ابن الملا معن وابلغه بقرار توقيفه واحالته الى أمن المحافظة.
وتشير المعلومات التي حصلت عليها (العباسية نيوز) الى ان اعتقال الشيخ حسين معن في طويريج وارساله الى الحلة قد جرى في الفترة التي اعقبت احداث العشرين من صفر عام 1977 التي كان من تداعياتها اقالة عضوي مجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية للحزب الدكتور عزة مصطفى وكان يشغل ايضا وزارة العمل والشؤون الاجتماعية بعد تحويله من وزارة الصحة، وفليح حسن الجاسم وكان يتولى وزارة الصناعة والمعادن حيث اتهم الاثنان بالتخاذل في محاكمة المتهمين بتلك الاحداث.
وكان مجلس قيادة الثورة قد شكل محكمة خاصة برئاسة الدكتور عزة وعضوية الجاسم وحسن علي نصار العامري لمحاكمة عشرات المشاركين في تلك الاحداث التي هي عبارة عن تظاهرات جرت في منطقة (خان النص) بين النجف وكربلاء لمناسبة زيارة الاربعين الحسينية.
ولم تتوصل التحقيقات في دائرة أمن الحلة مع الشيخ حسين معن الى نتيجة بشأن انتمائه الى حزب الدعوة ويقال بهذا الصدد ان تقارير النقيب عدنان نبات الطيبة عنه وموقف مفوض الامن ستار يحيي علي المؤيد لرئيسه اضافة الى ان اجهزة الامن ضبطت رسالة من مسؤول حزب الدعوة في النجف ويدعى (ابو ياسر) موجهة الى قيادة الحزب في الكويت وكانت برئاسة مهدي آصفي (الايراني الهارب من العراق) وفيها يشرح المسؤول اسباب عدم مشاركة الحزب في تلك التظاهرات ويعزوها الى قلة الامكانيات وعدم حماس (الدعاة) وهذه العوامل ساهمت في تبرئة الشيخ حسين الملا معن حيث افرج عنه وعاد الى طويريج مستبشرا.
ورغم ذلك فان مديرية امن محافظة بابل ظلت تلح على النقيب عدنان بضرورة اختراق ابن الملا معن وزرع أحد الوكلاء عليه لينقل اخباره ومن يتردد عليه، ولم يكن امام ضابط الا البحث عن (متعاون) لاداء هذه المهمة ولم يستمر طويلا في بحثه فقد استقر على معلم في مدرسة جناجة الابتدائية للبنين في اطراف طويريج يدعى نوري كامل علي رشحه ابن عمه مفوض الامن ستار يحيي علي، وجرت لقاءات وتوزيع مسؤوليات بين الثلاثة (النقيب عدنان والمفوض ستار والمجند نوري) وبدأ الاخير يتردد على ابن معن لعلاقة سابقة معه وينقل اخباره اولا باول الى ضابط ومفوض الامن في المدينة وكانت ذات طابع اجتماعي وتخلو من الجانب السياسي طيلة اشتغال النقيب عدنان والمفوض ستار في المدينة، وعلى ضوء ذلك ظل الشيخ حسين معن آمنا ولم يحدث له شيء حتى نهاية عام 1979 عندما نقل النقيب نبات الى بغداد ونقل المفوض ستار الى البصرة وقدم الى طويريج النقيب سامي الملقب بـ(ابو مصطفى) وتولى مسؤولية أمن القضاء.
وقد اسدى النقيب عدنان نبات قبل نقله من طويريج خدمة لوكيله نوري كامل علي كانت تعد كبيرة في ذلك الزمن، عندما منع نقله الى خارج ملاك وزارة التربية عند تطبيق نظام (تبعيث) التعليم، ونجح في ابقائه بعمله ومدرسته رغم ان التعليمات الرسمية والحزبية كانت تشدد على نقل المعلمين والمدرسين الذين يعتذرون او يمتنعون عن الانخراط في الحزب الحاكم الى عناوين وظيفية اخرى خارج دوائرهم ومناطقهم.
وقد اثار ابقاء نوري كامل علي الـ(غير البعثي) في وظيفته التعليمية وعدم تطبيق نظام التبعيث عليه موجة من التساؤلات عن اسباب ذلك ولكن سرعان ما إنكشف المستور وعرف معلمو طويريج البعثيون وغير البعثيين السر رغم ان نوري ظل يدافع عن نفسه ويؤكد ان ابن عمه الرفيق ضياء يحيي العلي وكان في تلك الفترة عضو قيادة فرع كربلاء للحزب هو من ساعده وابقاه في وظيفته ومنطقته.
ضياء يحيى العلي
وليست هناك معلومات موثقة عن طبيعة العلاقة بين نوري كامل علي مع ضابط الامن الجديد النقيب ابي مصطفى، الا ان الكثيرين من معلمي وموظفي طويريج يوم ذاك يؤكدون انهم شاهدوا نوري يتردد على النقيب عدة مرات علناً ويمضي اوقاتا طويلة في مكتبه وكان يفسر زيارته الى ضابط الامن بانها استدعاءات أمنية ويدعّي ان ابن عمه الرفيق ضياء يتدخل في كل مرة ويزكيه ويخلصه من (التوقيف) ولكن ادعاءاته كانت تقابل بالسخرية المكتومة أو التصديق المفتعل من طرف سامعيه الذين كانوا يعرفون (البئر وغطاه) تماما. !
وفي منتصف نيسان 1980 اعتقل الشيخ حسين الملا معن ونقل الى مديرية أمن النجف عقب اعتقال محمد باقر الصدر باسبوع ، اثر ورود اعترافات موقوفين متهمين بالانتماء الى حزب الدعوة عليه تثبت انه احد قياديي الحزب في منطقة الفرات الاوسط ويتراسل مع الصدر، وجاء في الاعترافات ايضا ان ابن الملا معن كان يوفد دوريا احد مساعديه الحزبيين ممن هربوا الى ايران مؤخراً ويدعى عبدالحليم الزهيري الى السيد الصدر لتبادل الاراء وتلقي التوجيهات، ونتيجة ذلك فقد احيل الشيخ حسين معن بعد تسجيل اعترافه واقراره بالتهمة المسندة اليه الى محكمة الثورة التي اصدرت قرارا باعدامه.
وقال احد معلمي طويريج في ذلك الوقت ومتقاعد حاليا تحتفظ (العباسية نيوز) باسمه لاعتبارات معروفة، انه يتذكر جيدا ان نوري كامل علي حصل على اجازة لمدة شهر من مديرية تربية بابل يقضيها خارج العراق في الكويت بعد اعتقال الشيخ حسين معن بيومين او ثلاثة، بعد ان ضمن له ابن عمه المفوض ستار يحيي علي الذي رفع الى ضابط امن في البصرة على تأشيرة دخول الى الكويت .ويضيف المعلم الطويرجاوي القديم انه لاحظ ارتباكا وقلقا انتاب زميله السابق نوري بعد اعتقال ابن ملا معن، ولا يستبعد انه وشى به او نقل عنه شيئاً وان اجهزة الامن اقدمت على اعتقال الشيخ حسين بأمر من دائرة أمن النجف وليس طويريج او الحلة لابعاد الشبهات عن المخبر الحقيقي او الوكيل نوري كامل .
المهم في القصة ان نوري كامل علي عاد الى بغداد عن طريق اربيل في آيار 2003 وكان يحمل اسم جواد المالكي بعد أقل من شهر على الاحتلال الامريكي وبدأ يبحث عن النقيب سامي ابو مصطفى وتبين انه قتل في الشمال عام 1991 وواصل بحثه عن النقيب عدنان نبات الذي كان قد احيل على التقاعد عام 2000 برتبة لواء وكان اخر منصب شغله هو مدير شرطة الكرخ وتمكن من معرفة عنوان داره.
وفي نهاية حزيران 2003 قاد نوري كامل علي أو جواد المالكي سيارة من طراز نيسان 2002 وكان يرافقه اثنان عرف فيما بعد احدهما وهو حسين المالكي (ابو رحاب) الذي تزوج ابنته اسراء عام 2006 وداهم منزل اللواء المتقاعد عدنان نبات في حي السيدية وتبادل الشتائم معه أول الامر ثم اقتاده تحت تهديد السلاح الى السيارة المتوقفة امام الدار.
واستنادا الى ما افاد به عدد من جيران عدنان نبات التقتهم (العباسية نيوز) بسرية بالغة، فان ابن اللواء المتقاعد الثاني او الثالث وهو صبي في السابعة عشرة من عمره اندفع راكضا نحو السيارة يسأل عن هوية خاطفي والده، فتصدى له نوري او جواد (لا فرق) مع مرافقيه وانهالوا عليه بالضرب وحشروه في صندوق السيارة وسط توسلات امه واخواته، وانطلقت السيارة مسرعة خارج الحي.
وبقية القصة يعرفها الكثيرون من ابناء طويريج وقد وثقها عدد من البعثيين فيها بتفاصيل كاملة وينتظرون الوقت المناسب لتقديمها الى الجهات المختصة، وفيها ان ابو اسراء عند وصوله الى طويريج مع مرافقيه وأسيريه اللواء عدنان وابنه ذهب الى دار الشيخ حسين معن في منطقة (الدويهية) وراح يصرخ باهل الدار لقد جلبت لكم من اعتقل الشيخ وقتله وها انا انتقم منه ومن ابنه ثأرا له، ثم سحب مسدسه من حزامه واطلق ثلاث طلقات على رأس ابن اللواء الذي سقط على الارض يتلوى من الالم ثم مات، بعدها استدار وهو يفتعل التوتر والعصبية كما ينقل عن بعض شهود الحادثة الذي تجمهروا في المكان نحو اللواء عدنان نبات وكانت يداه مقيدتان خلف ظهره والدماء تسيل من جبهته وانفه من اثر ضربات اعقاب المسدسات في الطريق كما يبدو، وأمره بفتح فمه فرد عليه اللواء عدنان قائلا: اطلق رصاصك يا جبان يا جاسوس.. جزاء احساني عليك، والتفت نحو الجمهور المحتشد وقال: اسمعوا يا عالم ياناس هذا ـ واشار الى نوري ـ كان وكيل عندي وجاسوس على صاحب هذا البيت، وانطلقت اربع رصاصات من مسدس نوري نحو فمه وقتلته.
وتخلص نوري المالكي من الشاهد الوحيد على جاسوسيته لدائرة الامن بعد ان توفي الضابط سامي ابو مصطفى وأسر ابن عمه المفوض السابق ستار يحيي علي وأمين سر قيادة فرقة (القرنة) الحزبية لاحقاً في معارك عبادان 1982 واختفت آثاره في ايران ولا يستبعد ان يكون المالكي الذي كان يقاتل مع الحرس الثوري الايراني ضد الجيش العراقي في ذلك الوقت وراء تصفيته هناك، فيما اضطر ابن عمه الآخر الرفيق ضياء يحيي علي الى الهرب الى دمشق عقب الاحتلال مباشرة ولكن لوحظ عليه انه آثر الابتعاد عن رفاقه البعثيين الذين توافدوا على سوريا بكثرة حينذاك ولم يمكث طويلا فيها، فقد غادر الى القاهرة وعاش فيها في شبه عزلة حتى العام الماضي عندما توفي إثر نوبة قلبية كما اعلن واعيد جثمانه الى العراق ودفن في كربلاء.
لقد فعلها نوري المالكي وقتل الشاهد الحي الاخير على تعامله مع اجهزة صدام الامنية كما يحلو له تسميتها في احاديثه، وطبق المثل الشعبي العراقي المتداول (اقطع راس وادفن خبر) دون ان يدرك ان الله جلت قدرته يُمهل ولا يهمل، وان التاريخ لن يغفل جرائمه التي كانت عملية قتل اللواء عدنان نبات ونجله الشاب اول مسلسلها الطويل الذي ما زال مستمرا ولم ينته بعد.