بنى أبو جعفر المنصور بغداد عام 145هـ - 763م وظلت أجمل وأكبر عاصمة عربية للخلافة العربية الإسلامية العباسية نحو 400 عام، بلغت أوج عظمتها في خلافة هارون الرشيد (العصر الذهبي) كان سكان العراق 30 مليوناً ونفوس بغداد تربوا على المليونين، لم تحظ عاصمة في التاريخ بالجمال والجلال والهيبة والعظمة كما حظيت بغداد، لكن نوائب الزمان لم تترك بغداد وحالها، دمرها المغول بإسقاط الخلافة العباسية على يد هولاكو، وغزاها حفيده تيمورلنك مرتين وتناوب على احتلالها الأتراك والأكراد والصفويون، وتنازع عليها السلاطين والولاة، وفي كل مرة تحاصر يعاني أهلها الجوع فيأكلون لحوم القطط والكلاب، ويعمل بأهلها السيف ويحيق بها الدمار، ولا تلبث أن تنهض وتعود كما ولدت، غزاها وباء الطاعون الذي عصف بالبلاد في العهد العثماني. فتراجع تعداد أهلها ليصبح في 1920 عند استقلال العراق 250 ألف نسمة فقط.
شهدت بغداد بعد الاستقلال تطوراً سريعاً في بنيتها التحتية وأصبحت من أجمل العواصم العربية وأوسعها مساحة، تتميز بكثرة مساجدها ومراقد أعلامها الإمام موسى الكاظم، وأبو حنيفة النعمان، وعبد القادر الكيلاني، وسلمان الفارسي، وبمواقعها الأثرية السور القديم ومنطقة المدائن والمدرسة المستنصرية أول جامعة في التاريخ، يمر نهر دجلة ببغداد فيقسمها شطرين الكرخ والرصافة، بهما تلقب أشهر شعراء عصرها الحديث معروف الرصافي، والشاعر الشعبي عبود الكرخي.
لم يهن على الدول الإقليمية والدول العظمى أن تباهي بغداد أعرق المدن العالمية حضارة ومدنية، وأغاظهم تقدم العراق وتطوره، وأن يغادر حظيرة "العالم الثالث" إلى مصاف الدول المتقدمة، وتوافرت له مقومات النهضة، كوادر علمية وتقنية رصينة، وسيولة نقدية ودخل مرتفع، وبنية تحتية محكمة، جامعات ومستشفيات ومختبرات وطرق وجسور ومعامل، شعب ذكي مثقف تخلص من الأمية نهائياً، وقضى على الأمراض المستوطنة السل وشلل الأطفال والجدري والبلهارسيا والملاريا، وتمتع شعبه بضمان صحي وتعليم إلزامي مجانيين، وقوانين متطورة ولديه خامس جيش في العالم، فدبروا له وكادوا وورطوه بالحرب الإيرانية طيلة عقد الثمانينيات، ثم خططوا له حتى أوقعوا به وأدخلوه الكويت وأتاحوا الفرصة لتشكيل تحالف دولي مرتين بعشر سنوات ترجم الحقد على العربة والإسلام بحرب إبادة وتدمير للزرع والضرع انتهت بغزو غاشم واحتلال بغيض عام 2003. ليتراجع عدد قاطنيها إلى أربعة ملايين بتدهور الحالة الأمنية بعد أن سجلت الأرقام الرسمية نمو العدد إلى سبعة ملايين نسمة قبل الغزو والاحتلال، ورغم كون بغداد اصغر المحافظات العراقية مساحة فهي أكثرها تعداداً وكثافة سكانية.
من شواهد الحقد الغربي على العراق خصوصاً بغداد ركيزة الحضارة العربية وشموخ أصالتها قيام طيران التحالف الغربي بتدمير أكثر جسور بغداد، التي تربط جانب الكرخ بالرصافة، فحين بدأت "حرب الخليج الثانية" لم يكن للجيش العراقي وقطعاته تواجد في بغداد، وإنما على الحدود، وليس لجسورها ومرافقها الخدمية تأثير في الجهد العسكري، لكن الضغينة والكراهية وجذوة انتقام الفرنجة، لا تطفئها الخسارة العسكرية فحسب، بل يريدون قتل أساسيات الحياة وقطع طرق التواصل وطمس معالم الحضارة، بهدف تفتيت العراق والتنكيل بشعبه، فخلف غزوهم البغيض كوارث جعلت من بغداد درة الشرق ولياليها (ألف ليلة وليلة) أسوأ مدينة للعيش في العالم بممارسة العنف وارتفاع معدلات الإرهاب وكثرة قنابل الانتحاريين وتواتر التفجيرات، وكل ما جرى ويجري على أرض العراق يتم بتدبير القوى الغرب الاستعمارية التي توعدت العراقيين بلا حياء بإعادتهم إلى العصور الحجرية.
عشرة جسور تربط شطري بغداد الكرخ والرصافة توثق التواصل الاجتماعي المدني دمرها المعتدون، أقدمها جسر الشهداء، عمره نحو ألف سنة، مر بمراحل تطور وتجديد آخرها 1940 لا أشك أن 50 % من شعب العراق وأجياله المتعاقبة على الأقل عبروا عليه راجلين ولهم منه ذكريات، فمن يغفر لطائرات التحالف تدميره بلا مبرر، وكان جسر الصرافية (الحديدي) الأضخم والأطول في العالم منتصف القرن الماضي، قصفه الطيران الأميركي من الشرق والغرب، وكان الجسر المعلق الأول في "الشرق الأوسط" بتصميمه، قصفه طيار أميركي واعترف بمشاهدته مركبات صغيرة مدنية تعبر عليه وهي تسقط في النهر، جروح العراقيين غائرة في العمق لا تمحى ولا تنسى فمن يملك أن يتجاوزها؟
يتحدث العالم بعجب عن تفشي ظاهرة الإرهاب، ولا يتساءلون عن دوافعه وجذور نشأته الحقيقية. قوى التحالف لم تكتف بتدمير خنادق الجنود بقنابل ارتجاجية محرمة دفنتهم فيها أحياء، ولا بقصف أرتال القطعات المنسحبة وحاملات الجنود بمن فيها، بل دمروا محطات الكهرباء والمياه والوقود، ومجاري المياه الثقيلة، فما الذي يحفز على الإرهاب أكثر مما فعلوا، بلا إذن من المجتمع الدولي ومجلس الأمن، ويرفضون التعويضات ويتساءلون لماذا الإرهاب. الغزاة دمروا جسور بغداد ومقومات الحياة، و"الدواعش" الإرهابيون و"الحشد الشعبي" أجهزوا عليها، فهم ملة واحدة.