(أهم أمر في القيادة المثالية هو أن تبادر بالقيام بالفعل حتى يسهل على الآخرين تطبيقه.)، بهذه العبارة اختصر رئيس الأوروغواي خوسيه موخيكا، اسلوبه في مكافحة الفساد في بلاده؛ ليوصل البلاد إلى المرتبة الثانية في قائمة الدول الأقل فساداً في أمريكا اللاتينية، بحسب منظمة الشفافية العالمية.
عالم السياسة فيه نماذج عصرية جديرة بالتقدير، وأن تكون قدوة للآخرين، ومنهم الرئيس موخيكا، الذي ذكر لصحيفة "إل موندو":" أنه يتلقى راتباً شهرياً، قدره (12) ألف و(500) دولاراً؛ ولكنه يحتفظ لنفسه بمبلغ (1250) دولاراً فقط، ويتبرع بالباقي للجمعيات الخيرية، وأن المبلغ، الذي يتركه لنفسه يكفيه ليعيش حياة كريمة، بل ويجب أن يكفيه؛ خاصة وأن العديد من أفراد شعبه يعيشون بأقل من ذلك بكثير".
موخيكا (76 عاماً)، الذي حصل على لقب (أفقر رئيس في العالم وأكثرهم سخاءً)، يعيش منذ بداية شهر آذار/ مارس 2010، في بيت ريفي مع زوجته لوسيا توبولانسكي، عضو في مجلس الشيوخ، التي تبرعت هي الأخرى بجزء من راتبها، للجمعيات الخيرية.
أمام هذا النموذج الحي المتميز نجد أن الحال مختلف تماماً في (العراق الجديد)، وكأن غالبية السياسيين وجدوا في (المنصب)، أو العملية السياسية باباً للثراء السريع والفاحش؛ والدليل على هذه الفرضية معدلات الفساد المخيفة، التي ذكرتها منظمة الشفافية، المعنية بمكافحة الفساد، التي أظهرت أن دولة الإمارات العربية جاءت في مقدمة دول المنطقة الأقل فساداً لعام 2014، وسجلت (70) درجة، وجاءت في المرتبة (25) عالمياً، وسجلت ليبيا (18) درجة، وجاء ترتيبها عالمياً (166)، وجاء العراق في ذيل قائمة دول المنطقة بعد ما سجل (16) درجة، وحل في المرتبة (170) عالمياً.
وحسب المنظمة، فكلما اقتربت درجة الدولة على مؤشر الفساد-الذي يقيس مستويات النزاهة سنوياً في مختلف دول العالم -من صفر كلما دل ذلك على أن تلك الدولة أكثر فساداً، وكلما اقتربت من (100) كلما عكس ذلك زيادة نزاهتها، وتراجع نسبة الفساد فيها.
وقبل أيام، أعلنت لجنة نيابية عراقية متخصصة، عن امتلاكها (10) ملفات فساد مهمة، في طليعتها: "عقود تسليح وزارة الدفاع، ومشاريع أمانة بغداد، واتفاقيات وزارة الصناعة والمعادن تخص عقود ابرمت لصالح مؤسسات الدولة خلال السنوات الماضية تنطوي على شبهات فساد".
هذا الفساد المتنامي في جسد الدولة العراقية هو الذي أدى إلى خراب الحياة السياسية، وتدمير روح المواطنة، وتخريب منابع العمل من أجل المصالحة الحقيقية؛ وضياع المنظومة الأمنية، التي لا يعرف غالبية عناصرها معنى الولاء للوطن.
المتابع لعمل لجان النزاهة حالياً في العراق يجد أنها تُصدر نشرة يومية عن رصدها لبعض صور الفساد المالي والاداري، وكشفها عن بعض الفاسدين المتورطين ببضع مئات من الدولارات، وكل ذلك خراب يجب الحد منه، لكن بالمقابل فان هذه اللجان لا تقترب من مياه حيتان الفساد العملاقة؛ لأنهم يملكون الجاه والقوة والمنصب، وهذا يعني أن القانون يطبق بصورة انتقائية!
هذا الفساد يشبه إلى حد كبير الأوبئة الفتاكة، التي تنتشر وسط عجز الأجهزة الصحية عن مكافحتها، وهنا نسأل:
هل ماتت القيم والمبادئ؛ حتى نصل إلى هذه الدركات المخجلة من الفساد العام؟
أين ذهب إنسانية الإنسان؟!
وأين دفنت الشعارات، التي كان ينادي بها غالبية أطراف العملية السياسية، قبل الاحتلال وحتى اليوم؟!
النزاهة نُحرت في بلاد الرافدين، وهيئة النزاهة اليوم بحاجة لهيئة نزاهة، وهكذا ستبقى البلاد في هذه الحلقة المفرغة، ولن نخرج منها الا بإعادة القيم الإنسانية الأساسية للحياة، ومنها تعليم المسؤولين -الذين ينتمي غالبيتهم لأحزاب دينية، يفترض أنهم تربوا فيها على حب الوطن، والرزق الحلال وبغض الحرام -قيمة اللقمة الحلال، ونقمة السرقة.
المنصب ليس باباً لكسب السحت الحرام، وانما هو تكليف وليس تشريفاً، وعلى المسؤول الناجح أن يكون قدوة للمواطنين في مكافحة الفساد، مكافحةً عملية تقود لخلق دولة نظيفة.
فهل المناصب تعمي الأبصار، أم تفتح الشهية على السرقات القانونية الرسمية؟!