الصراع المدفوع في المقام الأول بالمعارك على الهوية والفائدة، يستهلك الشرق الأوسط اليوم. وبشكل فردي، تهدد هذه الصراعات بقاء الدول في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك سوريا والعراق واليمن. أما بشكل جماعي، فإن الشرق الأوسط بأكمله معرض لخطر انهيار نظام الدولة.
ولهذه الظاهرة البعيدة جغرافيًا تأثير مباشر على مصالح الولايات المتحدة. وكلما ازداد ضعف الدول في منطقة الشرق الأوسط، كلما أصبح من الأسهل بالنسبة للجماعات الإرهابية، والدول الداعمة للإرهاب، التخطيط، والتجنيد، والعمل ضد الولايات المتحدة وشركائها. وإذا استمر فقدان السيطرة هذا، فإن الولايات المتحدة سوف تجد نفسها مضطرةً أكثر وأكثر للتعامل مع المؤامرات التي تحاك ليس ضد أصدقائها فقط، بل وأيضًا ضد الوطن الأمريكي نفسه.
وهناك نوعان من التهديدات الخارجية الرئيسة لنظام الدولة في الشرق الأوسط. الدولة الإسلامية في العراق والشام، والمعروفة أيضًا باسم داعش أو الدولة الإسلامية، تجسد التهديد الأكثر مباشرة، ولا سيما مع إعلانها قيام خلافة مصممة لتحل محل الدول القائمة. وأيضًا، تشكل جمهورية إيران الإسلامية تهديدًا حقيقيًا لهذا النظام، وهي تستخدم وكلاءها من الميليشيات لتقويض الدول وحرمانها من السلطة في جميع أنحاء أراضيها، وقد منحت هذه العملية لطهران بالفعل نفوذًا على أربع عواصم عربية، هي بغداد، ودمشق، وبيروت، وصنعاء.
وتأتي مسائل الحكم العميقة، من القيادة السياسية للإدارة الاقتصادية، ومن عدم المساواة الاجتماعية إلى التنمية التعليمية، لتزيد من مخاطر هذين التحديين. ويمكن لهذه المسائل تهديد حتى الدول الأكثر تجانسًا في المنطقة، مثل مصر. وسوف تعطي الاستراتيجية الشاملة الأمريكية لمعالجة التهديدات الخارجية الولايات المتحدة نفوذًا أكبر للتركيز بصورة فعالة على هذه المشاكل الداخلية.
وفيما يتعلق بداعش، فقد جعل الرئيس باراك أوباما من الواضح أن التحدي هو أكثر من تحدٍ عسكري فقط، وذلك على الرغم من أن تقديم الدعم العسكري للحكومات التي تقاتل داعش على الأرض هو أمر بالغ الأهمية. العمل العسكري فقط لا يمكنه هزيمة داعش، ولن يتم تحقيق هذا الهدف إلا إذا فقدت الجماعة مصداقيتها أيضًا.
والمسلمون فقط هم من يستطيعون تقويض أيديولوجية داعش المتعصبة، وهم من يجب أن يأخذ زمام المبادرة في القيام بذلك. وفي نهاية المطاف، تعتمد استراتيجية الولايات المتحدة على إلحاق نكسات بداعش، في حين تقوم ببناء تحالف واسع من الشركاء لدعم جهود العرب في إلحاق الهزيمة بالتنظيم. ويبرز فقدان الرمادي في العراق مؤخرًا، ضخامة وإلحاح هذا التحدي.
ويرى البعض أن مثل هذا التحالف قد يوفر إمكانية جلب الإيرانيين والسعوديين معًا نتيجةً لعدائهم المشترك لداعش. ولكن، على الرغم من أن وجهة النظر التقليدية التي تقول إن “عدو عدوي هو صديقي” قد تنطبق على استعداد السنة للتعاون سرًا مع إسرائيل؛ إلا أنها لا تعمل بالنسبة للسعوديين، والإماراتيين، والبحرينيين، وغيرهم، عندما يتعلق الأمر بالإيرانيين. هذه الدول ترى نضالها ضد إيران نضالًا وجوديًا. ويعد هذا الأمر أساسيًا جدًا بالنسبة لها لدرجة أن المملكة العربية السعودية، ومصر، وغيرها، وافقت على حشد قوة عربية مشتركة، ليس لمحاربة إسرائيل، بل لمواجهة الميليشيات المدعومة من إيران، والمجموعات الجهادية ربما.
ويجب علينا نحن أيضًا أن نحكم على الإيرانيين على أساس سلوكهم. سوف تحارب إيران بالتأكيد لمنع هيمنة داعش في سوريا والعراق، وفي هذا الإطار، تتلاقى أهدافنا معها، ويمكننا تشغيل عملياتنا في بعض الأحيان بشكل متوازٍ. ولكن رغم هذا، تعد الرؤية الاستراتيجية الإيرانية للمنطقة على خلاف جذري مع رؤيتنا ومصالحنا. وربما ستصبح هذه الرؤية مختلفة لو استطاعت أهداف التكامل الاقتصادي مع العالم الخارجي، والتطلعات الداخلية، دفع إيران إلى تغيير أهدافها الاستراتيجية في المنطقة؛ ولكننا لا نزال بحاجة إلى الحكم على إيران من خلال الكيفية التي تتصرف بها.
وفي هذا الإطار، لا تزال العناصر الأكثر نفوذًا في إيران اليوم ترى الولايات المتحدة عدوًا لها. وليس السبب في هذا هو مجرد العقلية التآمرية حول السعي الأمريكي لتدمير الجمهورية الإسلامية، بل وأيضًا لأنهم يرون أن أمريكا تشكل العائق الرئيس أمام سيطرتهم على المنطقة. وحتى إذا ما سعت الولايات المتحدة لطمأنتهم حول أهدافها، سيبقى من المستبعد جدًا أنهم سيصدقون ذلك ما لم تكن الولايات المتحدة مستعدة للرضوخ لأهدافهم في الهيمنة الإقليمية.
وفي نهاية المطاف، إذا كانت الولايات المتحدة تأمل في حشد السكان من العرب السنة في العراق وسوريا في مواجهة داعش، وهؤلاء عنصر أساسي لا يمكن تهميشه، فإنها لا تستطيع أن تنظر إلى إيران كحليف متوقع. هذا السيناريو من شأنه أن يجهض أي محاولة سنية جادة لنزع الشرعية عن داعش، ووضع الدول السنية في موقف دفاعي، والأسوأ من ذلك كله، زيادة احتمال أن تقدم داعش نفسها على أنها الحامية الحقيقية الوحيدة لأهل السنة.
وللتأكيد، لدى السعوديين تاريخ من لعب دور سلبي في التبشير بأيديولوجية التطرف السني؛ إلا أنهم اليوم رغم ذلك، يعترفون بأن لهم مصلحة في مكافحة معظم هذه العناصر المتطرفة. وعلى العكس من الإيرانيين، يعرف السعوديون أيضًا خطر تقويض نظام الدولة في الشرق الأوسط.
وفي حين لا تستطيع إيران أن تكون شريكًا في تشويه سمعة داعش؛ إلا أن الاتفاق النووي الشامل مع إيران قد يكون ذا معنى في حال لم يسمح لهذه الدولة بأن تمتلك أسلحة نووية. وإن أي صراع لإيران علاقة به اليوم سوف يكون أكثر صعوبة، وأكثر خطورة، بكثير في المستقبل في حال اكتساب إيران القدرة على صنع أسلحة نووية.
ورغم ذلك، يغذي هذا الاتفاق أيضًا مخاوف السعودية، ودول عربية أخرى، حول التهديد الإيراني، ويتطلب أن تكون الولايات المتحدة حريصة على إدارة ردود أفعال هذه الدول، والاستثمار في طمأنتها.
وسوف يتطلب تحقيق هذا دفع إيران إلى الخلف في جميع أنحاء المنطقة. ومن المفارقات هنا أن التعاون مع إيران بشأن قضايا محددة قد يصبح أكثر احتمالًا في حال رؤية القيادة الإيرانية للولايات المتحدة وهي تقوم برفع تكلفة السلوكيات الإيرانية العدوانية حتى خلال بقائها منفتحة على الفرص. ومع مرور الوقت، قد يؤدي هذا إلى تغيير الحسابات السياسية الإيرانية حتى.
وفي هذا الإطار، يعد تغيير السياسة الأمريكية تجاه سوريا أمرًا بالغ الأهمية. لقد أدركت الإدارة أن داعش لا يمكنها الحصول على ملاذ آمن في سوريا إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على هزيمتها في العراق في الوقت المناسب. ولكن، نظام الأسد يستغل الهجمات الأمريكية على داعش، وغالبًا ما ينفذ من عمليات القصف ضد قوات المعارضة من غير داعش ما هو أكثر من عمليات القصف الأمريكية ضد داعش.
ولاستعادة مصداقية الولايات المتحدة، وجعل بناء معارضة أكثر تماسكًا أمرًا ممكنًا، يجب تغيير ميزان القوى على الأرض، ويجب أن يكون هناك نوع مختلف من الملاذ الآمن داخل سوريا، وهو الملاذ الذي سيكون من شأنه أن يجعل من الممكن إيواء اللاجئين داخل البلاد، والسماح للمعارضة ذات المصداقية والشرعية أن تعمل بشكل أكبر من داخل البلاد سياسيًا وعسكريًا.
والهدف النهائي هنا هو جعل التوصل إلى تسوية سياسية ممكنًا من خلال إظهار أن الأسد لا يستطيع الفوز. ورغم أن أنصار الأسد، وخاصةً إيران، سوف يكرهون هذا بالتأكيد، وقد يختارون الرد؛ إلا أن الإيرانيين بحاجة لمعرفة أن الولايات المتحدة سوف تنافس طموحاتهم، وأن التكاليف سوف تزداد فقط بالنسبة لهم في حال عدم التوصل إلى تسوية سياسية.
اليوم، ومع تلاشي الحدود، ووجود شبكة معقدة من التحالفات العابرة للدول والجماعات عبر الوطنية، السنية والشيعية على حد سواء، تعمل خارج سلطة الدولة، أصبح نظام الدولة في الشرق الأوسط معرضًا لضغوط لا هوادة فيها، وسوف يتطلب وضع استراتيجية للحفاظ على هذا النظام رؤية طويلة الأجل تعمل على حشد حلفاء الولايات المتحدة ضد داعش، ومواجهة الإيرانيين.
إن الولايات المتحدة لن تحدد مستقبل المنطقة، ولكن لديها مصلحة وطنية واضحة في منع انهيار نظام الدولة في الشرق الأوسط.
(كتب هذا المقال كل من: صامويل بيرغر، ستيفن هادلي، جيمس جيفري، دنيس روس، روبرت ساتلوف).