إجتثاث الهيئة الوطنية لإنتقاء الدواء ، والبديل الجاهز !
د.عمر الكبيسي
منذ اكثر من اربعة عقود من الزمن مارست الهيئة الوطنية لإنتقاء الأدوية في وزارة الصحة أكبر وأهم مسؤولية مهنية وعلمية وأكاديمية في سياقات انتقاء الدواء الفاعل والرصين والأمين والمهم توفيره وتداوله في المؤسسات الصحية العلاجية في عموم العراق ولم يكن بالإمكان دخول أي دواء أو استيراده أو تداوله في العراق دون إقراره من قبل هذه الهيئة بعد اكتمال تسجيله في لجنة تسجيل الدواء واستيفاءه لشروط التسجيل ومن خلال هذه الهيئة اكتسب العراق مكانة مرموقة في مستوى الرقابة الدوائية ورصانة الدواء المتوفر في المؤسسات الطبية والصيدليات والمذاخر العراقية الخاصة . ومنذ تاسيس هذه الهيئة كانت مواصفات العضوية والتشكيل تراعي المكانة العلمية والمهنية والوظيفية والأكاديمية وخبرة تراكمية وسيرة متميزة مما جعل عضوية الهيئة فيها تحسب تشريفا للعضو ومكانته كما كان تشكيلها ممثلا بكافة اختصاصات الطب والصيدلة والتصنيع والتقييم والتحليل والتسويق والاعلام الدوائي وممثلين عن وزارة الصناعة والخدمات الطبية العسكرية واقسام الصيدلة والدواء في كليات الطب والصيدلة ونقيبي الاطباء والصيادلة إضافة الى مدير الشركة العامة للأدوية ومدير مختبر الرقابة الدوية ورئيس لجنة تسجيل الدواء ومدير عام شركة سامراء الدوائية ، وتعد قراراتها حاسمة وهي هيئة مستقلة لا تخضع إداريا او تنظيميا لسلطة اخرى وترفع قراراتها لتصديق وزير الصحة فقط دون التدخل في تفاصيل قراراتها وفي وقت كانت تجري فيه تبديلات متلاحقة ومتسارعة في ادارة الشركة العامة للأدوية بسبب حساسية الموقع وأغراءاته فان الهيئة الوطنية لم تشهد في مسيرتها الطويلة تبديلا جذريا او تغييرا كاملا باعضاءها باستثناء إضافة اعضاء جدد اما تعويضا لعضو بسبب خاص او اضافة عضو بتخصص مهم غير ممثل بها ولهذا كان لكل عضو فيها خبرة متراكمة وفهم دقيق لتفاصيل وتعقيدات كل دواء ومضاعفاته وامتيازاته ومتابعة كل ما يستجد حوله من تحديثات . هيئة واسعة ورصينة ومتجددة بالتقادم بهذا المضمون أضفى لها مكانة لم توقعها تحت تاثير الوزارة او رئاسة الوزارة او السلطة في قراراتها العلمية والفنية وأكاد أجزم بذلك بشكل قطعي من خلال كوني كنت عضوا فيها لما يقارب عقدين من الزمن بالرغم من الضروف السياسية والإقتصادية التي تنعكس بشكل مباشر على طبيعة عمل الهيئة وقراراتها .
بتاريخ 20 نيسان 2011 صدر امر وزاري تقرر فيه تشكيل ما أسماه الأمر بإعادة تشكيل ( اللجنة الوطنية لإنتقاء الأدوية ) من 14 عضو جديد من مختلف الاختصاصات الطبية من بينهم عضو اختصاص صيدلي واحد فقط وتم ربط الهيئة فنيا واداريا وتنظيميا بوزير الصحة ومكتب مدير عام الشركة العامة لتسويق الأدوية .
ينطوي هذا الأمر على تحويل الهيئة الى لجنة مختلفة بطبيعة تشكيلها وارتباطها واختصاصاتها وتغيير جذري بكامل طاقمها وهيمنة مدير الشركة والوزير عليها بشكل مباشر وإناطة مهمة انتقاء الدواء الى لجنة تنقصها الخبرة الفنية التراكمية في موضوع حيوي ومهم شائك بتفاصيل المكاتبات والمقابلات والمراسلات والخيارات والاسبقيات والاحتياجات وتعدد المناشئ والمصادر وتوسع نطاق الصناعة الدوائية في الدول النامية والعالم الثالث والطابع التجاري الذي اصبح يحيط بهذه الصناعة وتخطيه ابعاد الرصانة وحيازة الاختراع والتصنيع واختراقات السوق السوداء والطابع التجاري ناهيك عن وسائل التحليل والتقييم الحديثة وطرق التواصل معها ، كل هذه التفاصيل تستوجب خبرة تراكمية لا علاقة لها بمستوى الطبيب الاختصاصي وكفاءته .
لا أدري إذا كان حل الهيئة السابقة في فترة تقييم أداء الوزارات ومهلة المائة يوم هو إجراء تقويمي في فترة حرجة من تفاقم مشكلة توفر الدواء والتخصيصات المالية لسد حاجة استيراد العديد من من الادوية المفقودة وتواجد الكم الهائل من الدواء الغير مسجل او المزور او الردئ في القطر ومشكل العقود وما يدور حولها من نقاشات وملاحظات في لجان النزاهة والتفتيش علما بان كل هذه المثالب والانتكاسات لا علاقة لها بعمل الهيئة من قريب او بعيد وان تشكيل اللجنة الجديدة في ظل هذه الظروف لن يسهم بحلها ان لم يكن الامر معكوسا تماما ً من امكانية تجاوز صلاحياتها من خلال ارتباطها الجديد وهيمنة كوادر الوزارة والشركة العامة للأدوية عليها وهي الشركة ذات العلاقة بتقدير الحاجة والشراء والعقود والمتابعة والتسويق والتوزيع .
بعد الاحتلال استمر عمل العديد من اعضاء الهيئة فيها وتعويض اعداد كبيره من اعضائها الذين هاجروا القطر وكان تواجد الاعضاء السابقين ممن امضى اكثر من عقدين بهذه المهمة بكل رصانة وعلمية ومنهم رئيس الهيئة المشهود له بذلك بمثابة إبقاء على عناصر الخبرة المتراكمة فيها ونقلها الى الأعضاء الجدد ، غير ان التبديل الجذري والكامل للهيئة وإناطة عملها باللجنة الجديدة بكل اعضائها الجدد وطريقة ارتباطها لا يمكن ان يحسب خطوة ايجابية لترصين هذه المهمة بقدر ما هو انتكاسة وانقطاع وإجتثاث الخبرة والكفاءة العراقية التي كان لها الدور الأكبر في رصانة الدواء العراقي لعقود من الزمن سبقت فترة احتلال العراق التي خيمت في ظلالها على تدهور الوضع الصحي بكامله في القطر .
رسم معالم جديدة للسياسة الدوائية في العراق ينبغي ان يتم ضمن خطة كبيرة تتضمن تطوير للصناعة الدوائية في القطر التي اصيبت بالشلل خلال الفترة التي اعقبت الاحتلال ووسائل ترشيد توزيع الدواء وتسويقه ومصادر استيراده ورقابته بناء على خبرة سابقة متراكمة وليس وفق أهواء واراء منقطعة عن تاريخ مشرف ومثمر في هذا المضمار .
الأمل كبير ان يحظى هذا الأمر بإعادة نظر وزير الصحة في موضوع الهيئة والتي بدأ أمرتشكيل بديلها ب(لجنة) في حين تتكلم الهوامش عن هيئة بديلة ! وأن يتم إختيار وتكليف أعضاء لهم خبرة في عمل الهيئة من المتقاعدين والاكاديميين والصناعيين والخبراء المتواجدين بالقطر المعروف دورهم واهتمامهم بهذا الجانب الحيوي إذ ان هذا الأمر هو أكبر من إرادة وسطوة كوادر إدارية متنفذة ومستفيدة في الوزارة يهمها ان لا تقوم الهيئة الوطنية لإنتقاء الأدوية بدورها الاستشاري المستقل الملزم والغير متحيز للكوادر الوظيفية او لإرادة تجارية او منتفعة سواء كان من قبل الشركات الدوائية او المستفيدين من خلالها مثل ممارسات الغرف الاستيرادية في الدول المجاورة .
الدواء والغذاء الردئ الواسع الانتشار في القطر منذ تغيير النظام وهيمنة سلطة الاحتلال كقضية الأدوية الفاسدة والحليب وزيت الطعام باهضة الثمن وهي منتهية المفعول والتي ما زالت في المخازن ، تشكل ظواهر فساد مستفحل وآفة كبيرة ومهمة صعبة لا يتم تقويمها بهذه الطريقة التي يجتث فيها موروث هيئة وطنية كفوءة باختصاصات طبية شابة مجردة من خبرات سابقة وريادة عالية متوفرة يتم تهميشها أو إجتثاثها حالها حال المؤسسة العسكرية او السياسية التي أجتثت عن بكرة أبيها بعد الغزو وأوقعت مسلسل الزلزال والعنف .