قابلية البعض غريبة ومخيفة في اختلاق الأعذار لأجل إقناع آخرين بما يخططون لتنفيذه، أو لتبرير ما ارتكبوه من أخطاء، وهذه القابلية صَنعة لا يمكن لكل من هبّ ودبّ أن يحسنها؛ لأنها نوع من المكر والكيد والتخطيط الفكري غير السليم الذي يقود بالنتيجة إلى إقناع الآخرين بالأسلوب، أو القصة المختلقة التي أُلفت بدقة وعناية.
الغاية من اختلاق هذه الأعذار تختلف من فرد لآخر، فقد تكون لغايات شخصية أنانية بحتة لإقناع (شخص ما) انه قد قصر في الموقف الفلاني، وبالتالي يحق للطرف الآخر أن يتخذ القرار المناسب، أو قد تكون لغايات حزبية وفئوية، وتهدف -فيما تهدف إليه- إلى إخفاء جريمة ما، وذلك بمحو أو بتغيير مسرح الجريمة.
وساسة العراق اليوم أغلبهم ارتكبوا أبشع الجرائم، سواء على المستوى الشخصي، أم على المستوى الوطني، فعلى المستوى الشخصي نجد العديد منهم أقدموا على تزوير شهاداتهم الدراسية الأولية والعليا، وبالتالي فهم يحملون درجات أكاديمية وعلمية لا حقيقة لها، أما على الصعيد الوطني فقد ساهموا في أعمال التخريب وجرائم القتل والتهجير والنهب والسلب المنظمة، لأهداف شخصية وطائفية وعنصرية.
العراق بعد عام 2003، تغير فيه كل شيء حتى أساليب الإجرام وطرق التكتم عليها، ولم نكن نتصور في يوم من الأيام أن يصل الإجرام إلى درجة تخريب المال العام من أجل محو آثار فعل ما يعود بالنفع على هذه الشخصية، أو تلك الجهة، وهو في الحقيقة خراب ودمار للبلاد. الطريقة التي ابتدعت للتهرب من المساءلة القانونية الدنيوية كانت عبر افتعال الحرائق المتكررة في الوزارات التي يقع فيها الفساد المستشري في عموم مؤسسات الدولة.
والملاحظ أن الحرائق دائما ما تلتهم الطوابق التي يُحتفظ فيها بالعقود المشبوهة التي تكون سبباً لنهب المال العام. وملف حرق الوزارات العراقية بعد عام 2003 كبير جداً، وسأكتفي هنا بذكر بعض تلك الحوادث المفتعلة.
ففي يوم 2/ 8/ 2010، نشب حريق في مبنى وزارة التجارة، والتهم الطابق الخامس الخاص بالعقود والمعاملات التجارية.
وبتاريخ 31/ 12/ 2010، حرقت وزارة النفط، وأدى الحادث إلى حرق الكثير من الوثائق والعقود النفطية المبرمة مع شركات أجنبية، وهو الحريق الثاني من نوعه داخل مبنى الوزارة إذ شب حريق في شعبة العقود والتراخيص في نهاية نيسان عام 2009.
ومن بين الوزارات التي طالتها تلك الحرائق المقصودة هي وزارة الصحة التي عرفت بكثرة العقود المشبوهة التي أودت بحياة عشرات الآلاف من العراقيين؛ عبر الأدوية السيئة المنشأ والمنتج، حيث التهم حريق عام 2008، طوابق العقود، وأعقبها حريق هائل في مخازن أدوية الدباش في منطقة الحرية في السابع من حزيران 2010.
وفي يوم 30/ 6/ 2011، نشب حريق كبير، في بناية وزارة الداخلية، وحينها أكد النائب في "لجنة النزاهة" في مجلس النواب "العراقي" صباح الساعدي أن حريق وزارة الداخلية مفتعل، وأن الغرض منه التغطية على ملفات الفساد المستشري فيها.
وآخر هذه الحرائق المفتعلة كان يوم 4/ 7/ 2011، وطال وزارة التعليم العالي، وكالعادة بررت الحكومة الحادث بأنه ناتج عن تماس كهربائي، وهذا ما أكده المتحدث باسم الوزارة قاسم محمد الذي قال إن الحريق كان بسبب تماس كهربائي، وإنه لم يتسبب بخسائر بشرية ولم يطل الوثائق، أو المستندات، ثم عاد ليقول في تصريح آخر إن الحريق طال قسم الأرشيف في الوزارة؟!!.
الناطق باسم وزارة التعليم العالي برر الحادث في ذات الساعة التي وقع فيها الحريق، وهذا الكلام يثير مئات علامات الاستفهام والتعجب؛ لأن العادة جرت أن نتائج التحقيق تكون بعد إخماد الحريق، وليس في ساعته؟!!
وهكذا فإن هذه "الحرائق السياسية" هي محاولة لمحو آثار أهم فترة من تاريخ العراق المعاصر، وهي مرحلة الاحتلال؛ لأنها مليئة بالخراب والفساد والتزوير. هذه المحاولات تهدف إلى طمس الحقائق؛ لأن أغلب رجال المنطقة الخضراء يعلمون علم اليقين أنهم سيقفون في يوم من الأيام أمام القضاء العراقي بعد انتهاء هذه المرحلة القاتمة من تاريخ بلاد النهرين، وحينها سينالون جزاءهم العادل وسيحاسبهم الشعب العراقي، ولن تنفعهم هذه المحاولات الخبيثة لطمس الحقائق لأن الشمس لا تغطى بغربال.