يكاد توقيت اندلاع التظاهرات الشعبية المطالبة بالتغيير في كل من ليبيا واليمن متزامنا، بفارق زمني لا يعتد به، لكن الفارق في التوجه السياسي بينهما كان كبيرا جدا. فقد شهد هذان البلدان العربيان إنتفاضتين شعبيتين سلميتي التوجه منطقية المطالب لا يملك اي شخص حجة أو سببا منطقيا في الاعتراض عليها، واستبشرنا خيرا بما ستتمخض عنه تلك المظاهرات المطلبية في تحقيق حلم الجماهير العربية في مختلف اقطارها، ولكننا سرعان ما شاهدنا بكل اسف أن مظاهرات شباب ليبيا بدات تنحو منحا مختلفا عن مسيرة المظاهرات السلمية الحضارية التي انطلقت في اليمن ، ومختلفا عما سارت عليه المظاهرات السلمية في كل من تونس ومصر العربيتان لغاية تحقيق أهدافهما باطاحة كل من زين العابدين وحسني مبارك عن السلطة. ففي الوقت الذي كان فيه المتظاهرون اليمنيون مصرين على الطابع السلمي الحضاري الرائع لاحتاجاجتهم ومظاهراتهم رغم إمكانياتهم للحصول على مختلف انواع الاسلحة - ان لم تكن متوفرة لديهم اصلا - في بلد تقدر قطع الاسلحة التي يملكها مواطنوا الشعب اليمني نحو خمسين مليون قطعة سلاح مختلفة الانواع والاحجام، رغم أساليب العنف الوحشي التي استعملها معهم نظام علي عبد الله صالح في تصديه لهم بوقت مبكر من بدء إنتفاضتهم الشعبية، شاهدنا في ليبيا عكس ذلك، حيث ان عددا من متظاهرين ليبيين كانوا يحملون اسلحتهم وهم يتصدون لرجال الامن الذين وهم يحاولون افشال المظاهرات وقطع الطريق على إمكانية تواصلها واستمرارها في مدينة طرابلس العاصمة وبعض المدن الليبية الاخرى .
ورغم ان الرئيس اليمني حاول بكل الاساليب دفع المتظاهرين للجوء الى استعمال السلاح، الا ان ثوار اليمن اصروا وصمموا على الابتعاد عن التورط في ذلك، لوعيهم المسبق ان في حملهم للسلاح سيكون مقتلهم ودمار وخراب بلادهم وضياع حقهم المشروع، وهم الحريصون على إنتشال بلادهم من سياسة التخريب التي استخدمها الرئيس اليمني في بلادهم. وبهذا الوعي والادراك الوطني فوتوا على عبد الله صالح فرصة توريطهم بحمل السلاح آولاً وضمان إلتفاف واسع لجماهير الشعب اليمني بنخبه السياسية والثقافية والاجتماعية وعدد كبير من المشايخ ورؤساء القبائل وقطعات من الجيش اليمني الفاعلة بقادتها وجنودها واسلحتها معهم. وها نحن اليوم نشاهد رغم وقوع الاف الضحايا من القتلى والجرحى بين صفوف الثوار من ابناء اليمن الاحرار ما زالوا متمسكين بطبيعة واسلوب مواجهتهم للنظام السلمية ومطالبهم المشروعة التي كسبت احترام وتعاطف العالم معهم. أما ما حصل في ليبيا فكان مع الاسف الشديد على العكس من ذلك وبصورة مقلوبة فبالرغم من أن الحصول على السلاح في بلد مثل ليبيا وفي ظل نظام العقيد معمر القذافي ربما يكون بحكم المستحيل، لكننا شاهدنا بام اعيننا في وقت مبكر من بدء التظاهرات الاحتجاجية في طرابلس وبني غازي عددا لا يستهان به من المتظاهرين وهم يحملون اسلحتهم الرشاشة قبل وبعد بدء قوات الامن الرسمية بعمليات قمع المتظاهرين، الامر الذي يشي بان هؤلاء ليسوا مجرد متظاهرين من بين ابناء ليبيا بل هم متمردون مسلحون ضد النظام. ومن غريب ما يلاحظ سرعة استقالة وزير العدل الليبي مصطفى عبد الجليل لتليها استقالة وزير الداخلية العقيد عبد الجليل يون، ولما تمضي سوى ايام قلائل على تلك الاحداث وقبل ان تفرز الاوضاع في داخل ليبيا وتتضح الصورة ، والاكثر مدعاة للتساؤل هو سرعة تشكيل المجلس العسكري الانتقالي ولم تمض سوى ايام قلائل، يضم عددا كبيرا من الليبيين وعلى راسهم وزير العدل المستقيل. وكلنا يعرف بان تشكيل مثل هذا المجلس وفي ظلل تلك الظروف وفي بلد لم يعرف للعمل المؤسساتي اي ارث او تجربة ولا للعمل الحزبي أو الجبهوي، فكيف ومتى تم التفاوض بين هؤلاء وما هي المواضيع التي طرحت للنقاش وكيف تم الاتفاق على البرنامج السياسي وتوزيع المهام والمسؤليات فيما بينهم؟!! ومع كل ما يثيره هذا الموضوع من تساؤلات مشروعة ويطرح علامات إستفهام كبيرة، الا اانه ليس مستحيلا ايجاد الجواب على تلك الالسئلة لو بقي الامر محصورا داخل تلك الحدود. لكن عندما يبدأ المجلس الانتقالي بمطالبة الامم المتحدة والاتحاد الاوربي والولايات المتحدة بالتدخل العسكري لمساعدتهم ضد نظام العقيد معمر القذافي، فهنا تتضح الامور ولم يعد اي شيء مبهم.
في مقالة سابقة بعنوان التحركات العربية بين الرغبة في التغيير والمغامرات الطائشة، قلت “لقد كشفت لنا احداث الاسابيع الماضية في ليبيا ألتي ابتدأت منذ شهر فبراير الماضي عدم توفر أداة التغيير القادرة على تحمل مسؤولية تنفيذ عملية التغيير بكل تفاصيلها السياسية والعسكرية، وكذلك افتقارهم الى خطة واضحة للتغيير، الامر الذي أوقعهم في جو من الارباك والتخبط منذ بداية تحركهم ضد نظام العقيد القذافي، وصرنا نسمع في كل يوم شكاواهم من ضعفهم في المجال العسكري مقابل تفوق قوات القذافي عليهم، كما صاروا يستنجدون ويستغيثون ويطالبون من الدول الاخرى لمساعدتهم. وهو ما يؤكد أن تحركهم كان مجرد مغامرة طائشة غير مدروسة وغير محسوبة ألنتائج، وكما كان متوقعا، تلقفت الدول ألغربية تلك النداءات الصادرة من “الثوار” بالتحرك المدروس خطوة فخطوة وصولا الى اتخاذ قرار من مجلس الامن “بحماية الشعب الليبي من الابادة على أيدي قوات القذافي “، مبتدئين بسيناريو التدمير لكل ألمؤسسات المدنية والعسكرية ألليبية كمرحلة أولى تليها مرحلة ألإحتلال المباشر لهذا البلد النفطي ذو الموقع الجغرافي المثالي بالنسبة لهم، تطبيقا لخطة تدمير العراق وإحتلاله عام ٢٠٠٣ ، هذا إذا ما افترضنا حسن النية في “ثوار ليبيا” إن لم نفاجأ في وقت لاحق بأن بين هؤلاء “ ألثوار “ أكثر من “ جلبي “ ليبي ”.
ويوم امس وانا استمع الى المؤتمر الصحفي لرئيس المجلس الانقتالي الليبي بمناسبة المبادرة التي طرحها الوفد الافريقي لحل الازمة الليبية وهو يقدم الشكر والثناء للاتحاد الاوربي والحلف الالطلسي وللولايات المتحدة الامريكية على الدعم العسكر الذي قدموه للمجلس الانتقالي في مواجهة قوات العقيد القذافي التي اوشكت على تطهير ليبيا منهم مرتين متتاليتين يكشف لي أن تداخلا مبكرا حصل بين مواطنين ليبيين شرفاء تظاهروا في شوارع المدن الليبية ضد النظام وهم يطالبون بالتغيير الفعلي والحقيقي باتجاه الغاء الحكم الدكتاتوري المطلق الى نظام ديمقراطي وطني تعددي برلماني، وبين ليبيين آخرين متواطئين ومتعاونين مع جهات أجنبية على قلب نظام الحكم بالقوة المسلحة في أول فرصة متاحة لهم، حالهم لا يختلف عن حال طاقم الخيانة العراقي الذي تعاون وتواطأ مع ادارة بوش على تدمير العراق ثم احتلاله، وهو ما حصل عام ٢٠٠٣ ورأينا كيف كان ثمن ذلك التواطؤ باهضا عل شعب العراق والامة العربية كلها. فلا يمكن باية حال أن يسرع الرئيس الفرنسي ساركوزي في وقت لا زال يلفه الغموض الى الاسراع باعلان وقوفه الى جانب المجلس الانتقالي بمحض الصدفة أو لدوافع انسانية تستهدف حماية الشعب الليبي من قوات العقيد القذافي مطلقا لان ذلك غير وارد في عالم السياسة الدولية فمتى واين وقفت دولة أجنبية هذا الموقف الانساني الذي اعلنه ساركوزي وهو الذي يعلم مثل غيره من قادة الدول الغربية بان العراق يعيش منذ ثماني سنوات عجاف خسر فيها مئات الالاف من الشهداء والجرحى والمعوقين والمغيبين والهاربين خارج بلادهم طلبا للامان ولم يكلف اي واحد من هؤلاء القادة الغربيين نفسه ولو بمجرد اعلان التضامن مع الشعب العراقي، كما يحصل الان في ليبيا؟!!
وعودة الى ثوار اليمن الذين يحضون بالاعجاب والاحترام الشديد من قبل جماهير الامة العربية بسبب تمسكهم بالحل الوطني وتفويت الفرصة أمام المتربصين الاجانب لاستغلال احتجاجاتهم ومظاهراتهم واعتصاماتهم ضد نظام علي عبد الله صالح، وعدم السماح لاية جهة عربية أو أجنبية بالتدخل في شوؤن وطنهم مؤكدين بالقول وبالمواقف وبالتصريحات المتكررة بان مشكلتهم تنحصر مع النظام وهم مصممون على ايجاد الحل الداخلي لها بارادتهم وبتعاضدهم وتحالفهم النضالي. والاكثر من ذلك ان نجد ابناء الجنوب اليمني الذين كانوا يطالبون بالانفصال عن الشمال بسبب الظلم الذي يلقوه على ايدي نظام صالح يتركون ذلك المطلب خلف ظهورهم ويتفقون مع اشقائهم ابناء الشمالي في مطالبهم الموحدة وهم يركبون بنفس القارب الذي سيوصلهم الى شاطىء الامان.
وبصرف النظر عن النتيجة التي ستتمخض عن انتفاضة شباب وشعب اليمن فانني اجد ان هذا الشعب العريق في حضارته وتاريخه قد حقق لغاية الان نتائج مبهرة ترفع راس كل عربي حر وتزيده فخرا وزهوا بهذا الشعب العظيم الذي شق طريقه نحو مستقبل مشرق له ولاجياله القادمة، التي لا شك عندي بانه سيحققها لا محالة ان لم يكن اليوم فغدا بكل تاكيد.
وإذا كان لي من كلمة أخيرة اقولها بشأن إخوتنا وأشقائنا في ليبيا فهي انهم ربما سيحققون طموحهم في الوصول الى الاطاحة بنظام القذافي وتحقيق مبتغاهم في الامساك بالسلطة ما دام حلف النيتو مستمرا في دك مواقع نظام القذافي العسكرية والمدنية وكل ما تقع اعينهم عليه من المؤسسات والمنشآت المدنية العامة ويقتلون ويدمرون كل ما بناه الشعب الليبي على ارض ليبيا وبعد إعادتها الى القرون الحجرية لتكونوا من بعد ذلك وكلاء لهم تحت عنوان حكومة!! فان ساوركم الشك في مصداقية نبوأتي هذه عليكم ان تنظروا ماذا فعل الاجنبي في بغداد والعراق عام ٢٠٠٣!!.
٢٠١١/٤/١٣