أليس في صناديق الإقتراع بقية يا مالكي!
د. نضير الخزرجي
سألني محاوري في قناة الحوار الفضائية بلندن ضمن برنامج "أضواء على الأحداث" عما إذا كانت حكومة المالكي قادرة على أن تقول للولايات المتحدة "لا" فيما لو أرادت واشنطن إبقاء قواتها أو زيادتها رغما عن أنف الحكومة العراقية؟
لم يعجزني الجواب وإن كنت أرى أن هذا السؤال لو وضع في مقام الاستبيان فإن الإجابة ستأتي بالأكثرية بالضد من حكومة المالكي لتعلن عجزه عن قول (كلا)، لا لأن أميركا قوية ولا لأن بعض الدول الإقليمية يحرص على خلخلة الوضع في المنطقة يعيد العراق إلى ما قبل عام 3003م حتى ولو برئيس وزراء إمَّعة يحمل الهوية الشيعية إرضاءًا للأكثرية الذين يشكلون نحو 80 في المائة من سكان العراق، فبادرت لمحاوري مجيباً: نعم يستطيع المالكي أو غيره أن يقول لواشنطن (لا) لو شاء ذلك شريطة أن ينزل إلى الجماهير العراقية ويصارحها بالأمر.
حاول محاوري مقاطعتي وأنا أعرف ما يدور في ذهنه وفي الذهن الجمعي لمعظم التيارات الشعبية العربية والإسلامية التي لا ترى في الشعب العراقي قوة وتستعظم أمر أميركا وتهابها، فبادرته بالقول: ربما ترى أن هذا الكلام من الشعارات، ولكن الواقع السياسي الذي عليه العراق اليوم وما فيه من منظومة سياسية حاكمة من سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية وسلطة رابعة (إعلامية) مزدهرة هي من نتاج (لا) قالها الشعب العراقي قبل ثمان سنوات حينما زعمت واشنطن حينها أن العراق غير مهيأ لخوض انتخابات برلمانية لتشكيل حكومة عراقية منتخبة، وتذرعت في (لائها) وممانعتها بالوضع الأمني، ولكن الجواب جاء من النجف الأشرف أسرع من هدهد سليمان(ع) أنْ كلاَّ لـ (لا) واشنطن، فغلب صوت المرجعية الدينية صدى واشنطن القادم من أروقة بعض الدول الإقليمية التي حاولت تكرار ما نجحت فيه عام 1991م أثناء الإنتفاضة الشعبانية، فنفي النفي هو الإيجاب بعينه ورضخت الإدارة الأميركية التي كانت تفرغ عن إرادة إقليمية، لإرادة المرجعية الدينية التي كانت تفرغ عن إرادة شعبية، وجرت الإنتخابات، وتشكلت الحكومة، وقام الدستور ونَعِمَ العراق بحكومة مركزية منتخبة وبحكومات محلية منتخبة، ومجلس أمة منتخب ومجالس محافظات منتخبة، ودستور مستفتى عليه جماهيريا، وتشكلت المنظومة السياسية الحالية التي أتاحت للعراقي أن يتوحد في بوتقة المواطنة من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه.
وبالطبع لم تهدأ الإرادت الإقليمية في العمل المضني على إسقاط هذه التجربة بكل ما أوتيت من قوة تساندها بعض الإرادات العراقية الحائرة، تحت مدعى التوازن السياسي مرة، ومرة تحت مدعى الشراكة الوطنية، فأفرزت هذه المماحكات اتفاقية أربيل ومجلس السياسات الاستيراتيجية الذي يُراد له أن يكون حكومة ثانية، وأشباههما من المشاريع والإتفاقيات والمعاهدات الخارجة عن الشرعية الدستورية أو المتعارضة معه.
كل أعضاء مجلس النواب العراقي النبهين يعلمون علم اليقين أنَّ إتفاقية أربيل فيها الكثير من الإشكالات التي يتعارض تطبيقها مع بنود الدستور الذي ذهبت إليه ملايين العراقيين للتصويت عليه بروحها قبل إصبعها، وكل النواب قاطبة يعلمون عين اليقين أنَّ مجلس السياسات الاستيراتيجية يتعارض كليا مع الدستور العراقي حتى وإن ركب البعض صهوة العناد المزمن، ولكن لم نعدم البعض وهو يصارح الشعب بعدم شرعية مجلس السياسات يسوقه صوت الضمير الإنتخابي الحي، والأكثر بين مؤيد له بقوة وبين ساكت عنه بقوة وإن أبدى من طرف اللسان معارضة، والفريقان في كل الأحوال لا يرغبان بحكومة قوية، فكل منهما يتحين الفرص للإنقضاض على العاصمة، والأسباب كثيرة وهي بعدد التدخلات الإقليمية والدولية وبعدد الإنبطاحات وضعف الإرادات الداخلية التي خارت عن احترام قدسية صناديق الإقتراع وحرمتها.
أعرف وأحسب أن الجماهير العراقية تعرف أن معظم نواب مجلس النواب العراقي المنتظمين في تكتلات وقوائم وتيارات حرقوا الصناديق كما حرق طارق بن زياد زوارقه مستأنسين بآفة النسيان المبتلى بها العراق، وكنت سأعزي نفسي بحرائق صناديق الإقتراع لو أن التيارات الحزبية تناشدت إلى إقامة حكومة وطنية وتقويم إعوجاجها بوصفها حكومة فتية والإحتكام إلى ما أفرزتها هذه الصناديق والتعلم من التجربة الديمقراطية الشرقية في باكستان أو الهند ولا أقول التجربة الغربية في فرنسا أو بريطانيا، لكنها تسابق بساط سليمان(ع) على إفساد التجربة، وبعض الكتل مثلها كمثل: (الَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً) سورة النحل: 92، تفسد ما نسجته خلال عقود من النضال السياسي!
بودي لو أن نواب الشعب العراقي ومن خلفهم شعب العراق قرأوا تجارب الحكم السابقة القريبة والبعيدة وتساءلوا: ما الذي يجعل حاكما عادلا نزلت فيه آيات بيِّنات يندبه العراقيون كل رمضان ويعزّون نجله الأكبر كل صفر، ويبكون نجله الأصغر كل عاشوراء، وينتظرون خروج حفيده كل شعبان، يصرح على الملأ: "لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرعتموني نغب التهمام (الهم) أنفاساً، وأفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان والخذلان)؟
وحتى تأتي لحظة المساءلة مع النفس أتساءل: ما الذي يخفيه المالكي ليصارح الشعب العراقي بما يعانيه في إدارة الملفات السياسية؟ هل غفل عن الإرادة الصلدة للمرجعية الدينية التي لها الفضل الكبير بما فيه العراق من نظام سياسي حر؟ لماذا لا يدعو الشعب العراقي إلى الدفاع عن أصواته التي وضعها في صناديق الاقتراع عندما صوَّت للدستور العراقي وصوَّت لحكومة منتخبة؟ نعلم ويعلم غيرنا أن اتفاق أربيل لم يمر من تحت الإصبع البنفسجي فلماذا يُراد له أن يمرر من وراء ظهر العراقيين! نعلم ويعلم أكثرنا أنَّ مجلس السياسات الاستراتيجية غير دستوري، فلماذا يُراد له أن يمرر بإرادة إقليمية وقفت على الدوام بالضد من التجربة الجديدة؟
لمثل هذا الخلل الدستوري والخطل التشريعي وغيرهما صارحوا الشعب العراقي على ما يُنصب له من شراك سياسية، صارحوه ربما يتذكر البعض من رفاق الأمس قبل غيره، ومن دعاة المظلومية التاريخية قبل غيرهم، أن هناك بقية صناديق إقتراع لها كل الفضل على نسيم الحرية، صارحوا أهل العراق قبل أن يفقد نعمة المواطنة التي عادت إليه بعد عام 2003م، ويعود إلى ندب حظه يواصل لطم الصدور وشج الرؤوس وإقامة مجالس العزاء في السر، يودع حجَّاجاً ويستقبل سفاحاً، ولم يزل صدام في الذاكرة بعد!
الرأي الآخر للدراسات - لندن