الامبراطور يسير عاريا في حصن المنطقة الخضراء
هيفاء زنكنة
2012-01-06
مثلما تغلف عجينة البرغل اللحم المفروم في كبة البرغل، تتغلف حكومة المالكي (وهي التي أصبح نصف وزرائها تقريبا وزراء بالوكالة) بعجينة الكذب . ليس هناك مجال لأي شيء آخر. وآخر الأكاذيب التي تتداولها حكومة الاحتلال بلسان رئيس وزرائها هي: 'ان الإنسحاب هو ثمرة لاستراتيجية التفاوض التي اعتمدتها حكومة الوحدة الوطنية في التعاطي مع وجود القوات الاجنبية'.
فلنتفحص الواقع الذي أدى الى جلاء القوات الجزئي، وكما يقول المثل الشعبي 'امش مع الكذاب لحد باب الدار' .
منذ الايام الاولى للاحتلال وفي اعقاب الغزو الانكلو أمريكي مباشرة، تبلور الموقف في الساحة العراقية بشكل معسكرين. المعسكرالأول يضم قوات الاحتلال التي أطلق عليها اسم 'قوات الأئتلاف'، تضليلا، وتحت امرتها عمل فريق من العراقيين. بعضهم وصل البلاد على ظهر الدبابات الامريكية واسرع البعض الآخر، من داخل العراق، لعرض خدماته على الحاكم العسكري جي غارنر ثم بول بريمر، ومن بينهم بعثيون كانوا حتى لحظة الغزو يمجدون صدام حسين والبعث غناء وشعرا واستخباراتيا، وآخرون من القضاة والعسكريين والتكنوقراط الذين إعتمد عليهم النظام، وووصلت حالة المزايدة بين افراد المعسكر، بداخله وخارجه، حد ترتيب الدعوات الشخصية المنزلية للترفيه عن قادة الاحتلال والتقاط الصور التذكارية، محط مباهاتهم في مزايدة بيع الوطن وخدمة المحتل.
وتجذر موقف المعسكر اللاوطني حين رضي، كامل افراده، بسياسة المحتل في التقسيم الطائفي والعرقي. فأسست الكتل والكيانات والتجمعات والأحزاب لتنخرط في عملية سياسية صاغ ملامحها ودستورها المحتل، استنادا الى الانتماء الطائفي والعرقي المتستر بحجة بناء 'العراق الجديد' التعددي، الفيدرالي، الديمقراطي، في ظل قوات الاحتلال وفرق الموت والمرتزقة والميليشيات والعصابات التي ولدت وترعرت في غياب الدولة والقانون.
وكانت النتيجة ارتكاب قوات الاحتلال جرائم أحنى لها حتى الشعب الأمريكي رأسه خجلا معتذرا بان حكومة بوش لا تمثله. جرائم ومذابح لن تكفي مئات الكتب لسرد وقائعها، ووصفها مثقفون وسياسيون ومسؤولو منظمات انسانية عالمية، بانها جرائم تماثل ما ارتكب في فيتنام واسوأ من هيروشيما وتتوجب محاكمة المسؤولين عنها كمجرمي حرب، بينما برر مستخدمو الاحتلال الجرائم بحجة 'ان النظام السابق كان يقوم بمثلها' أو 'انها ضد الارهابيين والصداميين والبعثيين' او في أحسن الاحوال، وقف بعضهم كشهود زور صامتين ازاء معتقلات أبو غريب والجادرية ومطار المثنى ومذابح حديثة والقائم والاسحاقي والفلوجة الى قصف النجف والمداهمات الوحشية في الموصل والعمارة، مرورا بالتطهير الثقافي والاكاديمي في حرق ونهب المتاحف والمكتبات والمعارض والمواقع الاثرية الى قتل المدنيين من باب التسلية وبيع الاطفال والعنف ضد المرأة. واستهدفت طائرات القتل الامريكية آلاف المدنيين بحجة استهداف 'المتمردين' و'القاعدة' كما هدمت البيوت والمدن.
واصبح المواطنون، وبينهم عوائل بكاملها، 'ضحايا جانبيين' لعنجهية وغباء وتهور قوات الاحتلال عند نقاط التفتيش ولحصانة المرتزقة وشركات الحماية الخاصة وكل عصابة ذات علاقة بالشرطة والأمن والميليشيات. وكل هذا موثق في تقارير منظمات الأمم المتحدة والعفو الدولية وهيومان رايتس ووتش وغيرها. وهاهو معسكر ' حكومة الوحدة الوطنية' كما يسميها المالكي متباهيا، هذه الأيام، ينهش بعضه البعض، اتهامات متبادلة بكشف الفضائح والملفات السرية ورسائل استجداء تطالب بعودة قوات الاحتلال، ومطالبة نائب عن ائتلاف دولة القانون (برئاسة نوري المالكي)، بأن يشمل رئيس الجمهورية جلال طالباني بالمادة 4 ارهاب بسبب ايوائه نائبه طارق الهاشمي المطلوب للقضاء. فيما يقف الأمريكيون المسؤولون عن المرحلة الجديدة من مشروعهم، من نائب الرئيس بايدن والسفير جفري ورئيس المخابرات المركزية (السي آي أيه) دافيد بيترايس وقائد المنطقة العسكري أوديرنو في الموقع المفضل من 'الحيادية' و'إحترام السيادة'، أي بالتعامل مع المنتصر الذي يحافظ على أهم مواقعهم. بينما تستمر التفجيرات بلا انقطاع وضحيتها المواطنون الابرياء وآخرها تفجيرات يوم الخميس حيث قتل وجرح 125 زائرا الى مدينة كربلاء.
أما المعسكر الثاني فيضم قوات المقاومة، قوات ابناء الشعب الرافضين للاحتلال بكل الطرق المتوفرة وبضمنها المسلحة وهو حق قانوني وشرعي واخلاقي تكفله القوانين الدولية والمحلية والانسانية، ويعرفه كل ذي ضمير. واذا كان من فخر للشعب العراقي فهو بدء مقاومته واستهدافه اول جندي للغزاة بعد ايام معدودة من غزو بغداد . وازدادت عمليات المقاومة ضد العدو حتى بلغ عدد الهجمات المستهدفة لقوات الاحتلال، بالتحديد، 5000 عملية شهريا (في تشرين الأول 2007)، أي 180 عملية يوميا، بمعدل 7 عمليات في الساعة، حسب جدول مؤسسة بروكنز الرسمية الامريكية.
ان عمليات المقاومة الباسلة التي دفع المقاومون، خلالها، حياتهم ثمنا للحرية والكرامة، هي السبب الاول الذي اجبر العدو على الجلاء، وليست جلسات العشاء وتبادل النكات والتقاط الصور في مضايف المسؤولين العراقيين. انها العمليات العسكرية التي كلفت العدو الخسارة المادية الجسيمة التي وصلت، حسب تقاريرهم، الى التريوليونات، والخسارة البشرية التي تجاوزت الآلاف (الارقام المعلنة غير حقيقية لانها تشمل الجنود المواطنين فقط)، وسقوط عشرات الآلآف من الجرحى المعاقين أبدا (حوالي 73 ألف حسب احصائية البنتاغون في تشرين الاول / اكتوبر 2011) والذين سيكلفون الميزانية الامريكية مبالغ طائلة لعلاجهم ورعايتهم مدى الحياة (ذكر أحد مسؤولي البنتاغون بأنه كان من الافضل موتهم، تقليلا للتكلفة)، على الرغم من كل الميزانية العسكرية الهائلة والتطوير العسكري للآليات والتقنيات واعادة هيكلة الجيش الامريكي لمواجهة هجمات المقاومة ولكسب 'قلوب وعقول العراقيين'. هذا هو السبب الذي جعل قوات العدو تحزم آلياتها وترحل وليست زيارات المالكي وعلاوي وطالباني الى البيت الابيض متمسحين بالادارة وشاكرين لجنود الغزاة الذين حرقوا وهدموا البلاد 'تضحياتهم'.
وقد أثرت عمليات المقاومة المسلحة على مجمل الوضع الاقتصادي الامريكي بقوة. حيث تجاوزت الميزانية العسكرية المكرسة للاحتلال حتى عام 2009 تكلفة الحرب على فيتنام، لتصبح ثاني اكبر تكلفة بعد الحرب العالمية الثانية كما انها اطول حرب تخوضها امريكا بواسطة المتطوعين والمرتزقة. وقد صرفت امريكا اموالا هائلة على الدعاية وشراء اجهزة الاعلام والمثقفين وتمويل مراكز 'الديمقراطية والسلام' للترويج الاعلامي المضلل تشويها للمقاومة وتصويرها بانها 'الارهاب' المسؤول عن سقوط الضحايا من العراقيين. وهو اسلوب قديم، وان بات ذا تقنيات متطورة اليوم، في تشويه نضالات الشعوب وحرمان مقاومة المحتل من حاضنتها الشعبية. حيث يعملون على قلب المنطق على رأسه. حين يروجون لصورة المتعاون مع الغزاة وسياسة المحتلين بانه وطني، ومن يقاوم الغزاة ويدافع عن حرمة بيته ووطنه واهله بأنه أرهابي. كما فعلوا في فيتنام والجزائر ولايزالون في فلسطين.
من ناحية السياسة الداخلية الامريكية، حاول الرئيس الامريكي اوباما، بداية، تناسي وعوده الانتخابية بسحب القوات من العراق، الا ان الوضع الاقتصادي المنهار في بلاده وعدم وجود اية دلائل مشجعة تشير، ولو ظاهريا، الى نجاح اكبر عملية عسكرية في فرض 'الديمقراطية' التي كان يجب ان تكون نموذجا لبقية بلدان المنطقة، ادى الى اتخاذ قرار الانسحاب وادعاء النصر في 'التحرير' مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية.
وعلينا التذكير هنا بان غضب الشعوب العربية على أمريكا وحلفائها من الحكام المستبدين والمتعاونين أو المؤيدين للغزو الهمجي، هو احد الاسباب التي ادت الى تفجير الربيع العربي، وان لايتحدث عنه الكثيرون. كل هذا دفع اوباما الى تنفيد قرار الجلاء الجزئي وليست حكومة 'الوحدة الوطنية' التي لا يتجول افرادها الا في حصن المنطقة الخضراء عراة الا من أكاذيبهم.
' كاتبة من العراق