ألقى جهاز الاستخبارات التركي القبض على عدد من الإيرانيين اتهمهم بدفع مظاهرات موازية لتلك التي حصلت في "ميدان تقسيم" في اسطنبول للاصطدام مع القوى الأمنيّة بهدف تأجيجها، وقد تم تسفير هؤلاء الإيرانيين على الفور.. فماهي تفاصيل الحكاية؟
وزير الخارجية الإيراني يتحدث لوزير الخارجية التركي في العاصمة التركية أنقرة
لم يسبق أن شهدت العلاقات التركيّة – الإيرانية فتورًا بل حربًا باردة كتلك التي تشهدها اليوم، على الأقل خلال عهد حزب العدالة والتنمية الذي صعد إلى الحكم في نهاية العام 2002. أمّا على المستوى الشعبي، فربما هي المرة الأولى التي يسجل فيها للشعب التركي اتخاذه موقفًا شديد السلبية من إيران، وهو الذي كانت شريحة واسعة فيها لا تخفي تعاطفها مع إيران لعقود طويلة.
المتابع للصحافة التركيّة والإعلام التركي قد يفوته أنّ انتخابات دولة مجاورة بحجم الانتخابات الإيرانية قد وقعت! وأنّ روحاني فاز في الانتخابات. صحيح أنّ البعض قد يعزو الفتور الواضح في تناول هذه الانتخابات والنتيجة التي أسفرت عنها إلى انشغال الأتراك مؤخرًا بالتطورات التي فاجأتهم على صعيد الجبهة الداخلية، إلا أنّ المثير أن إيران التي كانت غائبة عن تركيا في موضوع الانتخابات كانت حاضرة في موضوع آخر!
إذ ألقى جهاز الاستخبارات التركي القبض على عدد من الإيرانيين (حوالي 12 فردًا) اتهمهم بدفع مظاهرات موازية لتلك التي حصلت في “ميدان تقسيم” في اسطنبول للاصطدام مع القوى الأمنيّة بهدف تأجيجها، وقد تم تسفير هؤلاء الإيرانيين على الفور في ظل حرص على التكتّم على الموضوع قدر المستطاع، وإتمامه دون ضوضاء حتى لا يؤدي ذلك إلى ردّة فعل شعبية كما نقلت بعض المصادر بشكل يؤدي إلى تدهور متزايد في العلاقات الدبلوماسيّة بين البلدين.
لقد أعاد هذا الحدث تسليط الضوء على طبيعة عمل الاستخبارات الإيرانية في تركيا، وعن طبيعة دور الخلايا النائمة التي تزرعها إيران هنا وهناك. إذ تشير المعلومات إلى أنّ الاستخبارات الإيرانية تستثمر بشكل أساسي في توظيف عملاء لها داخل تركيا في قطاع المال والسياحة والإعلام والمجالات الثقافية والدعارة؛ لأن كل قطاع من هذه القطاعات له تأثير معين على قطاعات الدولة الأساسيّة أو على الحكومة والرأي العام في تركيا، ناهيك عن نجاحها في توظيف عناصر من بيئات وأيديلوجيات مختلفة، بل متناقضة في كثير من الأحيان كعناصر من حزب العمّال الكردستاني، وعناصر من الطائفة العلويّة، وعناصر من الإسلاميين المحافظين، وعناصر من اليسار المتطرف.
حتى العام 2012، كانت الرؤية التركيّة للسياسات الإيرانيّة في المنطقة بشكل عام مشوبة بالضبابية في أحسن الأحوال. صحيح أنّ شريحة لا بأس بها في مختلف المستويات (الثقافية، والاجتماعية، والإعلامية، والبحثية والأكاديمية) كان لديها تصوّر واضح عن الطبيعة السلبيّة لهذه السياسات في المنطقة، لكنها كانت تفضّل تجنّب الحديث عن الموضوع على مستوى النقاش العام؛ نظرًا لما يمكن أن تتعرّض له من ضغوط وانتقادات.
التصوّر التركي العام إزاء إيران
أذكر أني التقيت مع أحد محرري أكبر الصحف التركية المعروفين في العام 2010، وكذلك مع مدير إحدى وكالات الأنباء التركيّة، وقد تفاجأت من مدى معرفتهم واطلاعهم على حقيقة السياسات الإيرانية السلبيّة مقارنة بأقرانهم الأتراك، وعندما سألتهم عن سبب الإحجام عن رفع هذا التصور إلى مستوى النقاش العام، كان جوابهم أنّ الكتابة أو الحديث عن إيران بهذا الشكل يعرّض صاحبها لانتقادات عنيفة من الرأي العام، لاسيما من الشريحة الإسلاميّة المحافظة، والتقليدية، ولوبي المصالح والتابعين والمؤيدين لإيران، بل وحتى اليساريّين!
ومنذ تلك الفترة وحتى بداية اندلاع الثورة السورية، عندما كنّا نناقش مع الزملاء الباحثين والأكاديميين الأتراك، بل وحتى مع العديد من الشخصيات الرسميّة التركيّة موضوع الخطر الذي تمثّله السياسات الإيرانية على المنطقة برمّتها، كان الجواب ينطوي على إشارة بأن العرب عمومًا يضخّمون الخطر الإيراني وسلبيات السياسة الإيرانية، وأنّه من غير الممكن أن تكون إيران بهذا السوء.
لكن بالعودة إلى نفس الشخصيات اليوم، بدا أنّ هناك انقلابًا على مستوى الموقف من إيران، بل إنّ هذا التحول لم يبق محصورًا في هذه الدائرة، وإنما انعكس بدوره على مستوى الرأي العام التركي أيضًا.
رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان
أظهرت نتائج استطلاع للرأي نشره مركز زغبي للأبحاث في مارس 2013، ارتفاع النظرة السلبية في تركيا تجاه إيران بشكل كبير خلال السنوات الماضية مقارنةً باستطلاع مماثل كان المركز أجراه في عام 2006
معالم التحوّل في التصوّر التركي من إيران
أظهرت نتائج استطلاع للرأي نشره مركز زغبي للأبحاث في آذار 2013، ارتفاع النظرة السلبية في تركيا تجاه إيران بشكل كبير خلال السنوات الماضية مقارنةً باستطلاع مماثل كان المركز أجراه في عام 2006، مما يشير إلى حصول تحوّل في الرأي العام التركي إزاء إيران والسياسات الإيرانية في المنطقة. ويمكن توزيع أهم نتائج الاستطلاع على ثلاثة محاور:
أولاً- على صعيد العلاقات الثنائية والنموذج السياسي: 95٪ من الأتراك يرون أن علاقة بلادهم مع إيران سلبية، و74٪ يرفضون تقارب بلادهم مع إيران أكثر، و90٪ لا يوافقون على مقولة أن إيران قد تكون نموذجًا يحتذى به، و16٪ فقط يرون أنها تتبع سياسات تؤدي إلى الاستقرار في الجوار.
ثانياً – على صعيد السياسات الطائفيّة في المنطقة: 63٪ من الأتراك يرون أن الثورة الإيرانية جعلت المنطقة أقل استقرارًا، و88٪ يرون أن إيران تتّبع أجندتها الإقليمية الخاصة التي تناسب مصالحها، و78٪ يرونها مسئولة عن السياسات الطائفية في العالم العربي، و80٪ يرون أن دول الخليج العربية على حق عندما تقلق من وجود إيران نووية.
ثالثًا – على صعيد البرنامج النووي: 87% من الأتراك يرون أنّ طموح إيران النووي غير سلمي، وأنّ الهدف النهائي لبرنامجها النووي هو إنتاج قنبلة نووية. كما يوافق 68% منهم على استمرار العقوبات الاقتصادية على إيران إذا ما استمرت في برنامجها النووي، فيما يؤيد 51% من الأتراك بشكل عام و56% من الأتراك السنّة توجيه ضربة عسكرية لإيران بسبب برنامجها النووي إذا استمرت في العناد ومواصلة برنامجها النووي رغم العقوبات الاقتصادية، علما أنّ نسبة الموافقين على هذا الخيار من الأتراك كانت تساوي 27% فقط في العام 2006.
أسباب التحوّل في التصور التركي من إيران
أمّا أسباب هذا التحوّل، فهي تنطوي على بعدين أساسيّن. البعد الأوّل هو بعد داخلي يرتبط بشكل خاص بالاختراق الإيراني الأمني والاجتماعي والإعلامي لتركيا. والبعد الثاني هو بعد إقليمي يرتبط بالمواقف والسياسات الإيرانيّة في كل من العراق وسوريا ولبنان ومنطقة الخليج العربي.
1- على الصعيد الأمني: الأتراك حسّاسون جدًا إزاء أي موقف أو عمل يرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بعمليات حزب العمّال الكردستاني، وهناك قناعة راسخة لدى الأتراك منذ تفاقم الأزمة السوريّة بأن هناك دعماً مسلّحًا من قبل إيران لعمليات الحزب داخل تركيا لزعزعة أمن واستقرار البلاد، ولابتزازها سياسيًّا فيما يتعلّق بتطوّر الملفات الإقليميّة لاسيما سوريا والعراق.
التدهور في العلاقة بين تركيا وإيران لم يتم استغلاله من الدول العربيّة المتضررة من السياسات الإيرانية في محاولة بلورة سياسة مشتركة مع تركيا لمواجهة هذه المخاطر.
وقد عزّز من هذه القناعة لاحقًا إلقاء جهاز مكافحة التجسس التركي التابع للشرطة التركية القبض في آب وأيلول 2012 على شبكتي تجسس في البلاد تعملان لصالح إيران. وتضم الأولى إيرانيين اثنين ومواطنًا تركيًا، عُثر معهم على معلومات وصور أرشيف إلكتروني يحتوي على عناصر تمسّ أمن الدولة التركية، وقد قادت التحقيقات إلى إلقاء القبض على جاسوس إيراني في الحرس الثوري يعمل على التنسيق مع حزب العمّال الكردستاني داخل الأراضي التركيّة، وأدّت اعترافاته إلى إلقاء القبض على 9 آخرين بينهم إيرانيّان.
في شهر أيار 2013، كشف عدد من التقارير قيام قوات الأمن التركيّة بالقبض على 24 شخصًا في أقصى شرق تركيا بتهمة التجسس لصالح إيران بينهم 10 نساء إيرانيات كانوا قد نقلوا معلومات حسّاسة ووثائق تتعلق بأسرار الدولة التركية عبر إقامة علاقات “متعة” مع مسئولين أمنيين رفيعي المستوى في أجهزة الأمن والشرطة والجيش.
ومؤخرًا تم إلقاء القبض على عدد من المواطنين الإيرانيين بتهمة استغلال بعض الأحداث من أجل الدفع إلى صدامات بين القوى الأمنيّة والمتظاهرين الأتراك، ناهيك عن شكوك بوقوف إيران بشكل مباشر أو غير مباشر وراء عدد من العمليات الأمنيّة التي تستهدف الأمن القومي التركي كعمليات تهريب القائد في تنظيم القاعدة سليمان أبو غيث إلى تركيا، وعملية استهداف السفارة الأمريكية من قبل “جبهة التحرير الشعبيّة الثورية” اليسارية المتطرفة في شباط الماضي، بالإضافة إلى عملية الريحانيّة والتي ذهب ضحيتها عدد كبير من المواطنين الأتراك.
2- الاختراق الإعلامي: لم يكن شائعًا في تركيا من قبل الإشارة إلى وجود لوبي إيراني في البلاد. لكن منذ أن بدأت العلاقات الثنائيّة تشهد تدهورًا ملحوظًا مترافقًا مع ازدياد تأثير النفوذ الإيراني في تركيا في السنوات الأخيرة، أصبح هذا المصطلح شائعًا.
ويضمّ هذا اللوبي صحفيين وإعلاميين وأكاديميين ومثقفين وسياسيين أيضًا سواء موالين أيديولوجًيا (مؤيد للثورة الإيرانية) أو طائفيًّا (في هذه الحالة العلوية) أو سياسيًّا (يدعم اتجاه السياسات الإيرانية حول الممانعة) أو المتعاطفين والأنصار والمنتفعين مصلحيًّا. والغريب أنّ بعض عناصر هذا اللوبي لا سيما الإعلامية والصحفية منها تخترف صحفًا تصنّف على أنّها قريبة من الخط الحكومي أو محسوبة عليه، في موازاة صحف أخرى ذات طابع يساري، وصحف محسوبة على المعارضة السياسيّة.
عدد من مقاتلي حزب العمال الكردستاني
الأتراك حسّاسون جدًا إزاء أي موقف أو عمل يرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بعمليات حزب العمّال الكردستاني، وهناك قناعة راسخة لدى الأتراك منذ تفاقم الأزمة السوريّة بأن هناك دعماً مسلّحًا من قبل إيران لعمليات الحزب داخل تركيا لزعزعة أمن واستقرار البلاد
ويستهدف هذا اللوبي مؤخرًا التأثير على الرأي العام التركي، وهو فاعل في هذا المجال، حيث تستطيع أن تجد سيلاً من المقالات والتقارير المقروءة والمسموعة والمتلفزة التي يكتبها المحسوبون على هذا اللوبي في الإعلام التركي.
ولا يقتصر عمل هذا اللوبي على بلورة خطابه بما يناسب الأجندة الإيرانيّة، بل إنّ عمله يستهدف القرار السياسي للحكومة التركية أيضًا، وهو إن لم يحقق كل أهدافه، إلا أنه نجح في إرباك الشارع التركي، والتشويش عليه في العديد من القضايا.
3- الاختراق الاجتماعي: لم يكن البعد الطائفي في تركيا شيئًا مهمًا في يوم من الأيام، فلا أهميّة أو وزن لهذا المعطى في الحياة اليوميّة أو الوظيفة الرسميّة أو أي منحى من مناحي الحياة في البلاد. لكنّ شيئًا طفيفًا بدأ يظهر على السطح مؤخرًا، وإن لم يصح وصفه بالظاهرة بعد نظرًا لمحدوديته في النطاق والزمان والتأثير، لكنّ الأتراك بدؤوا يشعرون بأنّ هناك تحريضًا طائفيًّا وخطابًا مذهبيًّا تسعى إيران إلى نقله إلى الساحة التركيّة على اعتبار أنّه تتوافر الكثير من الوسائل التي تمكّنها من تغذية مثل هذا التوجه في تركيا من بينها التركيبة الديمغرافيّة التي تضم علويين بالإضافة إلى الدائرة التي تحدّثنا عنها، والتي تضم (موالين ومناصرين ومنتفعين).
وفي هذا الإطار، كشف رئيس الجمعية العلوية البكتاشية التركمانية التركية “أوزدمير أوزدمير” أنّ إيران كثّفت جهودها، خاصة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، لإحداث صراع طائفي بين السنة والعلويين في تركيا، وأنّها استضافت حوالي 700 شيخ علوي إلى إيران التقوا بالمرشد الأعلى، وعدد من قادة الحرس الثوري الإيراني ضمن مخطط توسيع النفوذ الإيراني في تركيا.
كما كشف “أوزدمير” أنّ طهران أقامت ثلاث جمعيات ومؤسسة واحدة تهتم بالشأن العلوي في تركيا، لكنها في حقيقة الأمر مجرّد تمويه لعمليات استقطاب تستهدف النشء العلوي، وكذلك مشايخهم وترسلهم إلى قم لإعادة تأهيلهم، وتعيدهم من جديد إلى تركيا بما يخدم السياسة الإيرانية.
4- الاختراق الاقتصادي: لاحظت تقارير تركية عدة لجوء إيران إلى أنقرة للتخفيف عن الضغط الاقتصادي الداخلي الذي بدأ يولّد مشاكل اجتماعية خطيرة، وصدامات مع عدد من الطبقات الاجتماعية والتجّار أنفسهم.
وفي هذا الصدد، كشف تقرير صادر عن اتحاد الغرف التركيّة أنّ 17 في المائة من الشركات (44 من أصل 253) التي أُسّست في تركيا خلال أيلول 2012 لوحده فقط؛ تبيّن أنّها مموّلة من إيران، وهي المرة التاسعة على التوالي التي تحتل فيها طهران لائحة الصدارة فيما يتعلق بالجهات التي تؤسس شركات داخل تركيا.
ليس هناك نيّة لدى الأتراك لخوص مواجهة من أي نوع مع إيران، فهم يعتمدون سياسة “الطمأنة الدائمة” على الرغم من كل السلبيات التي شهدتها العلاقة الثنائية مؤخرًا، والتهجّم الإيراني على تركيا سياسيًّا وإعلاميًّا و أمنيّا
فقد شهد عدد المؤسسات -التي تم إنشاؤها في تركيا بدعم إيراني، ارتفاعًا سريعًا منذ بداية عام 2012، وبلغ عددها 651 شركة، لتتفوق بذلك على ألمانيا وروسيا وأذربيجان بواقع 252 للأولى، و126 لكلّ من روسيا وأذربيجان، علماً أنّ عدد المؤسّسات الإيرانية بلغ عام 2011 نحو 2140 شركة، بزيادة بلغت نحو 40 في المائة عن عددها عام 2010.
وتثير هذه النشاطات الاقتصادية الإيرانية قلقًا لدى أوساط مختلفة من الطيف التركي؛ من سياسيين واقتصاديين، خصوصًا أنّها تركّز على القطاعات الإستراتيجية المهمّة، ومعلوم أنّ مفاتيح الشركات الاقتصادية الإيرانية يديرها الحرس الثوري الإيراني، فمعظم النشاط الاقتصادي الإيراني يركّز في تركيا على قطاع الطاقة والاتصالات والبناء. كما أنّ عددًا من العملاء الإيرانيين يعملون في هذه القطاعات إضافة إلى قطاع المال الذي يوفر لهم وصولاً مباشرًا إلى الأموال الساخنة لتمويل العمليات التي يقومون بها داخل البلد المستهدف، وفي هذه الحالة تركيا؟
5- أمّا على المستوى الإقليمي: فعلى الرغم من أنّ كُلاًّ من العراق ولبنان والخليج العربي مثّلت حالات اختبار للسياسة الإيرانيّة بالنسبة إلى تركيا، لكن الملف السوري كان الأكثر حضورًا وتأثيرًا في التوجهات التركية العامة أو الخاصة، الرسميّة أو غير الرسميّة من إيران في الآونة الأخيرة. فقد كشفت الثورة السوريّة الوجه الحقيقي للسياسات الإيرانيّة بالنسبة للأتراك، بحيث لم يعد بالإمكان السكوت عنها بعد الآن. كما تحررت الشريحة التي كانت تفضّل البقاء صامتة أو مترددة حيال انتقاد إيران رغم معرفتها بحقيقة السياسة الإيرانية السلبيّة من القيود التي تمنعها من رفع الموضوع إلى مستوى النقاش العام، بل وتسليط الضوء عليه أكثر فأكثر.
بولنت كينيش، رئيس تحرير صحيفة “توداي زمان” التركيّة ومؤلف كتاب “إيران تهديد أم فرصة؟”
بولنت كينيش، رئيس تحرير صحيفة “توداي زمان” التركيّة الأوسع انتشارًا في تركيا، والمتخصص في السياسة الإيرانية لنيله شهادة الدكتورة في موضوع “الثابت والمتغيّر في سياسة إيران الخارجيّة 1979-2011″ والتي أشرف على حيثيّاتها الأوّلية وزير الخارجيّة التركي أحمد داوود أوغلو، يعدّ واحدًا من هؤلاء على سبيل المثال.
فقد قام كينيش مؤخرًا بنشر كتابين، أحدهما في العام 2012 تحت عنوان: “إيران تهديد أم فرصة؟”، والآخر في العام 2013 “عمليًّا” تحت عنوان “إيران والإرهاب: من حسن الصبّاح إلى اليوم” يسلّط الضوء -ولأول مرّة بشكل مباشر وواضح وصريح- على السياسات التخريبيّة الإيرانيّة في المنطقة، طارحًا مصطلحات ومفاهيم جريئة في هذا الصدد.
كما حصل تحوّل لدى بعض الكتّاب الذي كانوا يؤيدون إيران في السابق بعدما أدركوا حقيقة سياساتها واختبائها خلف مصطلح “المقاومة” ترافق ذلك مع تحرر أكبر في تناول وانتقاد وفضح أي عمل يتعلق بالسياسة الإيرانية تجاه تركيا والإقليم.
انعكاسات هذا التحوّل على العلاقات الثنائيّة
من خلال الاحتكاك المباشر مع المسئولين الأتراك، نستطيع أن نقول أنّه ليس هناك نيّة لدى الأتراك لخوص مواجهة من أي نوع مع إيران، فهم يعتمدون سياسة “الطمأنة الدائمة” على الرغم من كل السلبيات التي شهدتها العلاقة الثنائية مؤخرًا، والتهجّم الإيراني على تركيا سياسيًّا وإعلاميًّا وحتى أمنيّا كما ذكرنا.
لكن إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ثلاثة متغيّرات أساسيّة في المنطقة، فإننا سنصل إلى استنتاج يشير إلى أنّ التنافس بين الطرفين سيشتدّ حكمًا خاصّة وأنّ اللعبة الإقليميّة لا تزال صفريّة في شكلها الحالي، فمكسب أحدهم هو خسارة للآخر دون شك. أمّا المتغيرات فهي: افتراض بقاء الحرائق الإقليميّة إلى وقت غير قليل، تضارب الأجندات والأدوات والوسائل المستخدمة في تنفيذ هذه الأجندات، إعادة ترتيب واشنطن أوراقها في المنطقة على أساس التركيز على منطقة آسيا-الهادئ.
اللافت للنظر أنّ هذا التدهور في العلاقة بين الطرفين لم يتم استغلاله من الدول العربيّة المتضررة من السياسات الإيرانية أيضًا في محاولة بلورة سياسة مشتركة مع تركيا لمواجهة هذه المخاطر، على الرغم من علمنا أيضًا أنّ هناك حساسيات تركية إزاء تطوير مثل هذا البرنامج المشترك لأسباب متعددة منها الحرص على عدم الظهور بمظهر القوّة الطائفيّة في المنطقة، رغم أنّ الوقائع على الأرض تجاوزت هذا الحرص، علمًا أنّ إيران تحاول إبقاء البوابة مفتوحة مع تركيا على حساب العرب، حيث يشير دبلوماسي إيراني رفيع المستوى كان قد خدم في سوريا من قبل بأنّه “مهما ساءت العلاقة مع تركيّا فإننا قادرون على التفاهم على ملفات ثنائيّة وفقًا لمصالح مشتركة، لكن من غير الممكن أبدًا أن نتفاهم -مع ما وصفها بأنها- دول بترودولارية لا تمتلك قرارها وإنما تأتيها الأوامر من الخارج”، في إشارة إلى الدول العربية والخليجية منها!.