انتشرت خلال السّنوات العشر الأخيرة في العراق ظاهرة السّحر والعلاج الروحانيّ والاعتقاد بالجنّ الّذي يتلبّس الأجساد البشريّة. وتبثّ القنوات التلفزيونيّة برامج يقدّمها أشخاص يدّعون القدرة على شفاء المصابين بتلك الأنواع من السّحر، وافتتحت مراكز لما يسمّى بالعلاج الروحانيّ، وتواظب قناة "الديار" العراقيّة منذ سنوات عدّة على بث برنامج بعنوان "دروب الرّجاء"، يقدّمه أبو علي الشيباني، الّذي يدّعي القدرة على علاج الناس على الهواء مباشرة من آثار السّحر والجنّ.
ونظراً لشيوع الظاهرة، بات من الطبيعيّ، في بعض المدن، الحديث عن الجنّ وأفعاله الخارقة. وقد أعدت قناة "الفرات" في 7 تشرين الثاني 2014 تقريراً عن قرية في مدينة الكوت الجنوبيّة يدّعي أهلها أنّ الجنّ يهاجمها ويحرق منازلها، ويظهر الناس في التّقرير، وهم يركضون مذعورين، فيما يتعالى الدخّان من منازلهم، ويقول الناس إنّ ذلك من أفعال الجنّ. ولقد بثّت قناة العراقيّة في أيار 2014 فيلماً وثائقيّاً مطوّلاً عنوانه "سحر المقابر"،
ويرصد الفيلم حركة السّحرة الّذين يدفنون التّعويذات السحريّة بين القبور بهدف الإضرار ببعض الناس.
وأكّد أستاذ علم الإجتماع الدينيّ في جامعة القادسيّة الدّكتور صالح الصالحي شيوع هذه الظاهرة في المجتمع العراقيّ في شكل غير مسبوق، وجاء ذلك خلال حوار هاتفيّ مع "المونيتور" من مدينة الديوانيّة في 30 من كانون الأوّل الماضي.
وعزا الصالحي انتشار الظاهرة بهذا الشكل الواسع إلى حال التخلّف الّتي بات يعانيها المجتمع العراقيّ، إذ يكون أمراً طبيعيّاً انتشار الخرافة في مجتمع يعاني من الفقر في النّواحي الإقتصاديّة والثقافيّة والحضاريّة. وكلّما قلّ وعي الناس التجأوا إلى الخرافة والسّحر لإيجاد الحلول لمشاكلهم.
وبسبب غياب التّوعية الإجتماعيّة والقوانين الّتي تتعامل مع ظواهر كهذه، فإنّ الخرافة والسّحر والشعوذة لم تعد تقتصر على النّاس البسطاء والفقراء في العراق، بل تعدّتها إلى أوساط أخرى.
ولقد بلغ من شيوع الظاهرة أنّها دخلت ملاعب كرة القدم. وأعدّ الصحافيّ عبد الجبّار العتابي في كانون الأوّل 2013 تقريراً جمع فيه روايات رياضيّين عراقيّين عن أعمال السّحر والشعوذة الّتي يمارسها اللاّعبون والمدرّبون في الملاعب العراقيّة،
من قبيل إحضار ساحر ليتبوّل على الكرة قبل بدء المباراة، أو وضع التّعاويذ في مرمى الخصم. وقد راج في شباط 2014 خبر ضبط المفتّشين كميّة من موادّ السّحر والشعوذة داخل البرلمان العراقيّ، وأظهرت التّحقيقات، كما يروي الخبر، أنّها جاءت بطلب بعض الموظّفات العاملات في البرلمان.
وأشار الصالحي إلى أنّ ظاهرة السّحر والشعوذة تدعمها أحزاب سياسيّة ودينيّة، مؤكّداً أنّها ليست بالظاهرة البريئة على الإطلاق، فهناك أحزاب تعمل على تجهيل الجماهير وإشاعة روح الخرافة بينها لتسهّل قيادتها والحصول على أصواتها خلال الانتخابات.
ولفت إلى أنّ بعض الجهات الدينيّة يعمل في شكل واضح وعلنيّ على إشاعة الخرافة في المحاضرات والخطب الدينيّة، وهذا ما أكّده تقرير تلفزيونيّ بثّته قناة "الشرقيّة"، في نيسان 2013، وبيّن التّقرير أنّ السّحرة والمشعوذين في العراق يلقون رواجاً بالغاً قبيل الإنتخابات العراقيّة، إذ يقصدهم المرشّحون في الإنتخابات لتعزيز حظوظهم في الفوز بالمقاعد البرلمانيّة.
ويقرّ الدّين الإسلامي بوجود الجنّ،حيث يشرح القرآن في كثير من الآيات ان الجن يعبدون الله تماما كما البشر، وهناك سورة في القرآن تدعى سورة الجن تتحدث عن استماع الجن الى القرآن وعبادتهم لله. إذ ينصّ القرآن على ذلك في آيات كثيرة، لكنّه لا يصرّح بأنّها تتفاعل مع حياة الناس بالشكل الذي يروّج له السّحرة وبعض رجال الدّين. فهؤلاء يبالغون إلى حدّ بعيد بنشر الإعتقاد بأنّ الجنّ يعيش مع البشر ويشاركهم في حياتهم، بل وأجسادهم أيضاً. وكمثال على ذلك، فإنّ الشيخ عبد الوهّاب الخلاصيّ، وهو يعمل في أحد جوامع مدينة إربيل، في مهنة إخراج الجنّ من أجساد البشر بالاستعانة بالقرآن، يتحدّث بثقة عن قدرته على مخاطبة الجنّ وتوجيه الأمر إليه بترك جسد المريض أو يواجه القتل.
وأشار الدّكتور الصالحي إلى أنّ بعض رجال الدّين يعتقد أنّ نشر هذه الاعتقادات والفكر الغيبيّ يسهّل عمليّة نشر الدين نفسه.
وأضاف الصالحي بعداً آخر للمسألة، وهو البعد التجاريّ، لافتاً إلى أنّ العمل في هذا المجال يمثّل تجارة مربحة، فالسّحرة والمشعوذون والمتعاملون مع الجنّ يجنون أرباحاً ماليّة كبيرة جدّاً.
وأشار بعض الأخبار الصحافيّة في العراق إلى ارتفاع أسعار بعض الحيوانات والطيور بسبب استخدامها لأغراض السّحر، ومن بين ذلك، التّقرير الذي نشرته وكالة "السومريّة نيوز" في حزيران 2013، وتنقل فيه عن أحد صيّادي الأفاعي أنّ أحد أنواع الأفاعي ارتفع سعره إلى ما يعادل الـ1000 دولار لأنّه مطلوب لأغراض السّحر. وينقل تقرير لإذاعة العراق الحرّ في أيّار 2011 أسعار بعض الحيوانات وأعضائها الأكثر استخداماً من قبل السّحرة. حيث يصل سعر الضبع الضبع الذي تستخدم اعضاؤه التناسلية في السحر الى 600 دولار، اما الذئب فيصل سعره الى 2000 دولار وتستخدم انيابه وكبده في عمليات السحر.
ويرى الصالحي أنّ الخطوة الأولى تبدأ من التّثقيف باتّجاه فهم الدين فهماً عمليّاً وعقلانيّاً وإبعاده عن مسائل الخرافة والغيبيّات المطلقة.