حادثة النخيب العراقي.. استقواء السلطة بالطائفية واستقواء الشعب بالوطن
د. مثنى عبدالله
صحيفة القدس العربي اللندنية
يطل علينا وعلى العالم أجمع كل يوم المشهد العراقي بنفس الثوب منذ التاسع من نيسان/ابريل العام 2003 ولحد الآن. لاشيء جديد فيه سوى أثار الطعنات التي يوجهها قادة العملية السياسية للشعب والوطن. لاشيء يتحرك في أرجائه سوى التطاحن والخصومات والاتهامات التي تُشهر فيها مُذكرات القبض الصادرة من
الحكومة ضد نواب البرلمان تارة، ومن النواب ضد الحكومة تارة أخرى. لامفاجآت فيه بالنسبة للمراقبين السياسيين برغم مأساوية المشاهد اليومية المتكررة، لأن أية قراءة بسيطة للخريطة السياسية تحدد لنا سلفا مستقبليات الامور ومساراتها الحتمية، وهذه هي الطامة الكبرى بعد أن بات الوطن مجرد قطع دومينو على مائدة اللئام. فكل عظائم الامور تنتهي بتشكيل لجنة يتيمة تخصص لها الموارد والمستلزمات ثم لاتلد حقا. وكل الخصومات تؤول الى صفقة يدفع فيها المدعى عليه أستحقاقا سياسيا أو حزبيا الى المدعي ثم تنتهي الامور والخاسر هو الوطن. والذي يجري لن يثير الغرابة بعد الآن لأنها لعبة باتت مكشوفة. فهذا هو المطلوب من القادة الذين أنتخبهم الشعب في ثورة الاصابع البنفسجية. وهؤلاء والمحتل أصحاب قضية وإشهار فشل القضية من قبل صناعها ليس أمرا منطقيا، لذلك يتجرأ رئيس الوزراء فيشيد بالديمقراطية المتحققة في العراق، ويدعي أنه البلد الاكثر أستقرارا في المنطقة، دون حياء من شرف المسؤولية التي يجب أن يتحلى بها القادة ورجال الدولة. لكن الحقيقة تبطل العجب أذا عرفت ومن حسن حظ العراقيين أنهم أكتشفوا اللعبة باكرا، لذلك خرجوا في يوم الندم على المشاركة في الانتخابات، وتمنوا أن يقطع الاصبع الذي تلوث بالحبر البنفسجي بعد أن أكتشفوا أن لافرق بينه وبين المياه الآسنة، فكلاهما
مرتع للجراثيم.
وأذا كانت كل الحوادث التي مرت على العراقيين في ظل العملية السياسية، قد أيقظت بعض النيام وليس كلهم، وساهمت في أزالة الغشاوة عن عيون البعض ممن دغدغت عواطفهم الطائفية والاثنية والمذهبية، فأن الحادث الاجرامي الذي حصل في منطقة النخيب مؤخرا، يفترض أن يكون طلقة الرحمة التي يجب أن يوجهها الجميع الى العملية السياسية والى القائمين عليها. وأن يتبرأ منها كل دعاة الوطنية الذين برروا دخولهم اليها بدفع الضرر، لان الفعل الاجرائي الذي تم لمعالجة الموقف الناشئ عن تلك الجريمة من قبل السلطة وأجهزتها كان فعلا طائفيا بأمتياز، وكان دعوة واضحة جدا لعسكرة الطوائف بعضها ضد البعض الآخر، من خلال تصوير الحادث على أنه أستهداف ضد طائفة محددة. فالتحرك السريع للقوى الأمنية في حالة حصول حادث أجرامي، هو أجراء مطلوب وفعل محمود يحد من حركة المجرمين ويفوت عليهم فرصة الاستفادة من الواقعة الجرمية كما يحقق العدالة المطلوبة، لكن أن يتم تحرك العناصر الأمنية بغطاء سياسي، وبطريقة (الفزعة) المناطقية لخطف مواطنين أبرياء من القرى المحيطة بمنطقة الحادث، كي يتم أستخدامهم رهائن للضغط على عوائلهم وعشائرهم في سبيل أحضار المجرمين غير المعروفين، فهو منطق أعوج لا يمكن أن يحقق العدالة أطلاقا، كما أنه يجعل مبدأ سيادة القانون في مهب الريح، ويعزز عمليات الثأر والاجراءات المدفوعة بالحقد.
فأين الديمقراطية وحقوق الانسان وسيادة القانون التي يدعيها القائمون على شؤون
البلد، عندما ينحدر المسؤول في موقع السلطة المركزية أو المحلية الى مستنقع
الاحساس بأن الدافع الوحيد الذي يمكن أن يحركه تجاه رعيته هي المناطقية والطائفية، وينظرالى من هم خارج هذه المحددات كأعداء مفترضين يجب القصاص منهم حتى قبل أن ينطق القانون؟ وكيف يمكن أن تُحترم الاجهزة التي يجب ان يكون هدفها خدمة المواطن، عندما تتحول الى عصابة تأتمر بأمر'المحافظ أو رئيس مجلس المحافظة، وتغير على مواطنين وتخطفهم كرهائن؟ وكيف يسمح المسؤول الحكومي لنفسه أن ينظر الى من هم خارج المحافظة التي يسكنها على أنهم مواطنين من الدرجة الثانية؟
أن الذي جرى في حادثة النخيب الاجرامية لايمت أطلاقا بأية صلة الى الحق والعدالة
والانسانية، فقتل مجموعة من المواطنين الأبرياء عمل مدان ولايمكن السكوت عليه، ويجب أن ينال القصاص كل من خطط وشارك ونفذ هذه الجريمة، كما يجب أحالة المسؤولين الحكوميين الى العدالة لأن أعراض ودماء وأموال المواطنين أمانة في أعناقهم. كذلك فأن خطف الابرياء من قضاء الرطبة ونقلهم الى محافظة كربلاء وسط هتافات الغوغاء وأطلاق الاعيرة النارية المبتهجة بهذا الفعل الجبان، والتجوال بهم في شوارع المحافظة من قبل الاجهزة الامنية، عار يمس شرف المهنة ويمزق كل حلم بتحقيق العدالة، كما كشف كل الاغطية الوطنية الزائفة التي يحاول المسؤولون دائما أن يصفوا بها أجهزتهم الامنية. فلايمكن بناء أجهزة وطنية لتحقيق الامن من ميليشيات حزبية يتبوأ المسؤولية فيها قادة طائفيون تنكشف عوراتهم في كل أختبار لوطنيتهم.
واذا كان الحادث قد أعلن رسميا موت الوطنية في ضمائر ونفوس قادة العملية السياسية، وفضح نظرتهم السطحية لشعبهم القائمة على أساس أن العراق مجرد مستوطنات سكانية لا رابط بينهم، ودويلات تتقاطع مصالحها في كل وقت وحين، وأن العصبية الطائفية هي مقياس الانتماء في العراق الجديد، فأنه أيضا كان مؤشرا واضحا على أن الشعب العراقي لايمكن أن يتخلى عن وحدته الوطنية، وأن وجهاءه وزعاماته الاجتماعية مازالوا يتمسكون بكل الصلات التي جعلتنا شعب واحد، برغم ثقافة الغوغاء التي تريد السلطة نشرها في المجتمع. فالموقف الشجاع والانذار الحاسم الذي أعلنه العراقيون في محافظة الانبار ضد أجراءات السلطة الطائفية، أسقط من يدها الراية الطائفية وعجل هروبها من المستنقع الآسن الذي تسبح فيه. كما أن تحركهم السريع المدفوع بصلة الدم، والقيم النبيلة، والمصير الوطني الواحد تجاه وأهلهم المفجوعين في محافظة كربلاء، وأحتضانهم والمشاركة في مصابهم، عزز التلاحم الوطني وقدم صورة راقية المعاني عن أزلية العلاقات الانسانية التي يرتبط بها العراقييون، وأوضح البون الشاسع بين ثقافة السلطة وثقافة المجتمع وحالة الاغتراب التي يعيشها قادة العملية السياسية.
أن المطلوب الان هو القيام بعملية بناء على الموقف الوطني الشعبي الذي أظهرته هذه الحالة، ووضع ركائز ثابته لعملية سياسية وطنية خالية من شوائب الاحتلال وأعوانه، للنهوض مجددا بالوطن من حالة التشرذم التي يمر بها، وتعزيز الزخم الواثق من أمكانية مواجهة مخططات السلطة في عقر دارها وأفشال ثقافتها التي تحاول أشاعتها في المجتمع، والتأثير على كل المستفيدين والمنتفعين منها وأعادتهم الى الصف الوطني، لان اليقين قد تعزز مجددا أن طبيعة النظام السياسي الحالي لن تساعد أطلاقا على تكوين وحدة وطنية، لان البناء التحتي له قائم على التصارع الجهوي والفئوي، وأن مصادر القرار فيه موزعة بين ضامنين دوليين وأقليميين، وزعامات دينية وقبلية وحزبية تتحرك وفق مصالحها الذاتية، وأن هذه الحالة تأكل من أرضية الاجماع المطلوب بين الدولة والمجتمع التي يقوم عليها النظام السياسي، ويجعل خطواتهم في حالة تصادم دائم. أن الخسائر المادية والبشرية التي دفعها العراق طوال سنوات الاحتلال، والإهدار المتعمد من قبل السلطة لملايين الفرص التي كانت ستصب في صنع مستقبل عراقي وارف الظلال، ينبغي أن لا يستمر نزيفها كما هو معتاد، وأن تطوير الوقفة الشعبية التي ظهرت في حادثة النخيب كفيل بوضع حد لها وللسلطة التي تعتاش على مآسينا.
' باحث سياسي عراقي