هل اتّعظت القيادة السعودية من خطيئتها في العراق؟
د. مثنى عبدالله
صحيفة القدس العربي اللندنية
لعل من أكثر المشكلات التي جعلت السياسة العربية عاجزة عن تحقيق مصالح الامة، وغير قادرة على أحداث خرق في الجدار المعادي لاهدافها الستراتيجية في العالم، هو عدم وجود منهج قائم على المصداقية السياسية المستندة الى التطابق بين الاقوال والافعال، لدى الرؤساء والملوك والامراء العرب. وكما عطلت هذه السياسة المتخلفة العلاقات العربية العربية، ودفعتها في أحيان كثيرة الى حالة الصدام المسلح، أو قطع العلاقات السياسية والاقتصادية لفترات طويلة من الزمن، بل والذهاب حتى الى المُحرمّات وخرق كل الثوابت الاخلاقية في سبيل الاضرار بعضهم ببعض، غير أبهين بأن هذه الفعل سوف لن يبقى تأثيره محدودا في مساحة الطبقة السياسية الحاكمة، بل سوف يلحق الضرر بشعب كامل، فأن هذا التمادي في العداء أوجد حيزا من الاستعداد النفسي لدى الحكام العرب لقبول أستثمار هذا الوضع من قبل القوى الدولية والاقليمية، وشروعها من خلاله بتمرير مخططاتهم في المنطقة، والتي لم تضر الدول المُستهدفة فقط، بل أضرت المصلحة الجمعية العربية.
وعلى الرغم من أن حالة المصداقية السياسية المقرونة بثبات المبادئ الاساسية للامة رغم ندرتها، قد نقلت الفعل العربي الى مستوى التأثير الفاعل في صُوغ السياسات الخارجية للدول الاوربية، وتَحسّبها الحقيقي للمصالح العربية، كما لاحظنا ذلك من خلال مبادرة المرحومين الرئيس صدام حسين والملك فهد في ثمانينيات القرن المنصرم، والتي أفشلت قرار نقل السفارت الغربية من تل أبيب الى القدس المحتلة، الا أن حالة الشك والريبة بين الحكام، وهوّس التفّرد في زعامة الامة والصراع من أجل حيازتها من قبل هذا الحاكم أو ذاك، وتناقض الخطاب الخارجي الموجه للعالم مع الخطاب الداخلي الموجه للامة، بقيت هي الصفة الطاغية على مجمل الافعال العربية، مما عرقل عملية التطور الطبيعي للفعل العربي في المحافل الدولية والاقليمية، وجعله أدنى في التأثير من دول كانت حتى وقت قريب لاتملك صوتا جهوريا في الساحة السياسية الدولية، على الرغم من عدم أمتلاكها تلك الامكانيات المادية والجيوسياسية التي تملكها الامة العربية.
لقد كانت صورة العناق المتبادل بين الحكام في المؤتمرات العربية، وصور اللقاءات الفردية التي تجمعهم بالضامنين الدوليين لعروشهم وكراسيهم، والتي يتخللها الاتفاق على سيناريوهات التأمر على هذا البلد العربي أو ذاك، دليل على البون الشاسع بين الاقوال والافعال الذي أتسمت بها السياسة العربية، وهو الذي أدخل الامة في هذا الانسداد التاريخي الذي جعلها تتخلف عن الركب الحضاري، حتى باتت كل التصريحات الصادرة من زعمائنا لاقيمة حقيقية لها على المستوى الشعبي، بعد أن سمعنا منها الكثير على مدى سنوات طويلة، ويبدو أن البعض مازال مصرا على هذا الفعل بالرغم من كارثيته. فوزير الخارجية السعودي في لقائه مع وزير الخارجية البريطاني خلال الشهر الجاري يؤكد ( الحرص على الامن والاستقرار في ربوع العالم العربي والحفاظ على وحدة أوطانه وأستقلالها )، بينما يعلم المواطن العربي جيدا ماهو الدور الذي لعبته السعودية في تدمير العراق في العام 1991، وكيف قطعت الطريق على الحل العربي للمشكلة التي كانت قائمة في ذلك الوقت، كي يتقدم التدخل الدولي. ولم تكتف بذلك بل أوغلت في ظلمها على أمتداد ثلاثة عشر عاما، جمعت خلالها كل من عرض نفسه للبيع، وصنعت أخرين كي تشكل منهم ما سمي (بالمعارضة العراقية )، ثم قدمتهم للولايات المتحدة الامريكية، التي قامت بدورها بتنصيبهم على عرش العراق بعد غزوه في العام 2003، على الرغم من أنها كانت تدعي بانها مع وحدة العراق، وأنها لا تريد الا الخير لشعبه، الا أن المسؤولين فيها من صقور العائلة المالكة، كانوا لايتوانون يوما عن حث الامريكان وغيرهم على غزو العراق وتدميره، وهذا ماكشفته الوثائق التي ظهرت فيما بعد الغزو. وعندما حصل الاحتلال وقفت القيادة السعودية موقف المتفرج على النتائج الكارثية للحدث، التي كانت أحد المساهمين في صنعه، وتركت العراق فريسة للامريكان والايرانيين الذين فضلتهم الولايات المتحدة على السعودية وأقتسمت معهم النفوذ في أرض الرافدين، لادراكها بأن الايرانيين قوة ند في المنطقة، لاقوة أسناد ودعم كالقيادة السعودية. ففي عالم السياسة الحقوق والنفوذ والقطبية تأخذ ولا تمنح، بينما يبقى دور القوى الساندة دورا خدميا لاغير، لانها أرتضت أن تكون جزءا من الخطة وليس خطة أخرى لها أهدافها الخاصة.
لقد كنا نتمنى أن يكون دور القيادة السعودية دورا قياديا أرشاديا فاعلا في المنطقة العربية، وأن تكون مؤهلاتهم الشخصية وأمكانات بلدهم عاملا فاعلا في تحقيق مصالح الامة، وهم المستندين الى خبرة حكم طويلة جدا قياسا الى الاخرين، وأمكانية بترولية لها أكبر الاثر في الاقتصاد العالمي، وقدسية أرض منحتهم القيادة الدينية والتأثير الروحي على الامتين العربية والاسلامية. عندها سنصدق دعوة وزير خارجيتهم القائل (ندعو الجميع الى الحكمة والعقل في معالجة الامور وتجنب أراقة المزيد من الدماء، واللجوء الى الاصلاحات الجارية التي تكفل حقوق الانسان العربي وكرامته). لكن الوقائع أثبتت وتثبت يوميا عكس ذلك، حتى يبدو أنهم لم يتعظوا مما جنته أيديهم في العراق، ولم يقرأوا الخرق الاستراتيجي الذي أصاب الامن القومي العربي عامة وأمن بلدهم خاصة، من جراء أحتلال العراق حتى باتت أيران على تخوم حدودهم من خلال قواها الفاعلة في الساحة العراقية. فأين الحكمة والعقل الذي عالجوا به أمر العراق بالامس واليوم؟ ولماذا لم يكونوا فاعلين في صون حرمة الدم العربي في العراق، الذي يجري منذ أكثر من ثماني سنوات على يد القوات الامريكية والمليشيات الايرانية؟ ولماذا هذا الانكفاء التام عن الشأن العراقي بينما الاخرون يمارسون تدخلهم علانية؟ وهل أن اليمن أصبح لديهم أهم من العراق المستباح والرابض على حدود الامة الشرقية؟ أم أن خريطة الدور المرسوم لهم في اليمن ما زالت في دور التحقيق على الارض بينما تحققت في العراق عند أحتلاله؟
أننا نعتقد بأن دور القيادة السعودية في أحداث اليمن حاليا، يجب ان يرتقي الى المستوى الذي يدعو اليه وزير الخارجية السعودي من أن (المملكة حريصة على عدم التدخل في شؤون الاخرين)، وأن تكف عن أعتباره مجرد حديقة خلفية لها، وأن ترفع يد التأثيرعلى القوى القبلية والحزبية والعسكرية وأن تتعامل معه كدولة ذات سيادة وقرار. كذلك عليها التوقف عن اللعب من تحت الطاولة بالصراع الدائر في ليبيا، من أجل أهداف رسمها حلف الناتو لمصالحه وليس لمصلحتها هي، وأذا كانت تبحث عن تأثير فاعل في القارة الافريقية، فيجب أن لايكون على حساب دماء شعبنا العربي في ليبيا، حتى لانواجهها نحن العراقيين بالسؤال الصعب، وهو لماذا تتدخلون في كل البقاع العربية بينما تنأون بأنفسكم عن العراق اليوم؟ وهل كان تدخلكم في العراق يجب أن ينتهي عند خط الشروع في الغزو، ليبدأ التعاون الامريكي الايراني بعد ذلك؟
أن الدولة المحورية هي التي تكون أداة فعالة في توليد الاجماع بين دول المحيط على سياسة واضحة المعالم والتوجهات، والتي تصب في مصلحة الجميع بما يحقق أهدافهم الاستراتيجية وأهتماماتهم الانية، وأستيعاب التحديات التي تجابه الامن الوطني الفردي والامن الجمعي أو الاقليمي. لذلك تتبارى الدول اليوم في البحث عن مشتركات تجمعها، كي تشكل منها محيــــط ذي خصائص معينة تتحرك من خلاله لتحقيق مصالحها، وأن المواصفات التي تمتلكها الدولة السعودية تمكــــنها من لعــــب دور القائد للامة العربية وأنتشالها من واقعها المرير، لكن يبدو أن صقور القيادة السعودية ارتضوا لانفسهم، أن يكونوا مجرد مقاولين ثانويين في المؤسسة الامريكية، وأمنـــــاء صندوق يفتحون خزائنهم المالية ويبسطون أيديهم كل البسط للامريكان والاوربيين، كلما مرت بهؤلاء ضائقة مالية نتيجة حرب على هذه الدولة العربية أو تلك، بينما يعاني الكثير من العراقيين من شظف العيش في الداخل والخارج، ويعانيه أيضا الكثير من أبناء شعبنا العربي في المشرق والمغرب العربي.
لقد عبرت أيران الى خارج حدودها القومية من خلال رسم دور أخر لها أكبر مــــن مجرد دولة قومية كحال الدول القومية الاخرى في العالم، فأدبيــــاتهم السياسية وتنظيراتهم الدينية تؤكد على أن أيران اليوم نواة الدولة الاسلامية الكبرى القادمة لامحال، لذلك هم يبحثون اليوم عن توسيع مجالهم الحيوي لتحقيق ذلك، بينما بقيت الدولة السعودية ملتزمة بالقرار السياسي الغربي الذي رسم أتفاقية سايكس- بيكو، على الرغم من الكثير من أبناء الشعب العربي يتطلعون الى قيامها بدور توحيدي للامة. فهل يتحقق ذلك؟
' باحث سياسي عراقي