يا وطنيّي العراق إتحدوا ضد الاحتلال والتقسيم
د. مثنى عبدالله
صحيفة القدس العربي اللندنية
على مدى أسبوع كامل من تلويح رئيس البرلمان العراقي أسامة النجيفي، بخيار أنفصال الطائفة المُحبطة وتشكيل أقليم المُحبطين أو دولة خاصة بهم. تزاحم القوم من طهاة الكلام على الفضائيات العراقية مطلقين العنان لشتى التبريرات التي تؤيد الانفصال، وكأنهم كانوا بأنتظار من يشعل الفتيل. كما تناخى كتاب الطائفية الذين تعودوا على الكتابة بممحاة أقلامهم المثلومة، لتدبيج المقالات التي تبشر بمستقبل واعد في حالة الانفصال في أقليم أو دولة أو ربما الانضمام الى دولة من الدول التي تتبع نفس المذهب. الغريب أن البعض من هؤلاء القوم كانوا أعضاء في جبهة التوافق، التي رفرفت راياتها وشعارتها فوق رؤوس سكان محافظات الاقليم المنتظر في سنوات الاحتلال الاولى، وكانت تدعو الى المشاركة الفعالة في
الحكومة لبناء (العراق الجديد) الواحد الموحّد، وتزاحمت صور قادتها أصحاب الايادي البيضاء كما هم سموا أنفسهم بذلك، عدنان الدليمي وطارق الهاشمي وخلف العليان، على جدران منازلنا مشجعين الناس على أنتخابهم لتحقيق الامل المنشود، ومُوهمين الناس بسراب حُلمٍ كاذب. وعندما قلنا لهم في ذلك الوقت أنكم تدفعون الناس الى مستقبلٍ مُظلم، وأن الاحتلال مشروع مُمنهج يهدف الى تقسيم العراق من خلال تقسيم المناصب والمسؤوليات، وأنه يستخدمكم أدوات لهذا المشروع ويعتمد عليكم في إقحام العامة في لُجه. كانت تُهمهم جاهزة بأننا لسنا سوى دُعاة مقاومة غير مجدية. بل أوعزوا الى خُطبائهم في الجوامع الى التبشير بأن دخولهم السلطة هو بدافع درء المفاسد، والى النصح بأن لاتلقوا بأنفسكم الى التهلُكة (أي المقاومة) بحجة عدم التكافؤ بين عدة القوة التي يملكها المحتل وما يملكه الشعب من وسائل رفض. ووصل طغيانهم وعتوّهم وأستماتتهم في سبيل بلوغ المنصب ونيل الرضا الامريكي وشركاءهم الطائفيين الاخرين، الى قيادة حملة شعواء لتجفيف منابع المقاومة في تلك المناطق، والاخبار عن العديد من المقاومين الابطال كي تخلوا الساحة لهم، ويسرقوا إرادة الحواضن الشعبية للمقاومة. وعندما بان الصباح وسكتوا عن الكلام المباح، تبين أنهم هم أول من جلب المفاسد وكفَ المنافع عن الناس، من خلال أنخراطهم في مؤسسات رسمية مشوهة خُلقيا وأخلاقيا، لم يستطيعوا أن يقدموا من خلالها للمواطن البسيط أية خدمة، أو يرفعوا عن أيّ مظلومٍ مظلمة، أو يُطلقوا سراح أنسان بريء. بل تلوثت أيديهم التي أدعوا أنها بيضاء بالتوقيع على الاتفاقية الامنية العراقية ـ الامريكية، بتبريراتٍ باطلةٍ وبعملية خداع مُقرفة، وشرعنوا التقسيم الطائفي والاثني لمؤسسات الدولة والمجتمع. وعندما بانت حقيقة فشلهم بعد هزيمة التجربة التي ساهموا فيها، أختلفوا فيما بينهم وأنشطروا عموديا وأفقيا. بعضهم آثر حمل المباخر لتعطير درب الطائفيين الاخرين في القوائم المناوئة علّهُ يحصل على منصب فتحالف معهم، وبعضهم الاخر أختار بُدعة تشكيل قائمة طائفية الجوهر علمانية المظهر. تنادي بشعاراتٍ وطنية وتتحدث بأسم (المكوّن) وليس بأسم الوطن. لكن الاغرب مما في هذه الحملة الاعلامية التبريرية لشرعنة الانفصال، هو أنخراط شيوخ عشائر ورجال دين معروفين فيها أفتوا بشرعية هذا الفعل. ومما أوردوه من أسبابٍ موجبةٍ للانفصال ببياناتهم الرسمية، هو أن عدد من مراقد الائمة الصالحين أصبحت تحت سيطرة الطائفة
الاخرى، وأن أي أصلاح للوضع يجب أن يأخذ بنظر الاعتبار أعادة هذه المراقد، متناسين
أن هؤلاء الصحابة الكرام كانوا دعاة وحدة تحت خيمة واحدة جامعة، عابرة للطوائف نابذة كل الدعوات القومية العنصرية.
أذن اليس من المنطق أن يحافظوا على وحدة التراب الذي ضم تلك الرفاة؟
لقد سنّ هؤلاء القوم سنة سيئة عليهم وزرها ووزر من عمل بها الى يوم الدين، فتلاقفها
الطائفيون من الجانب الاخر، الذين أثبتوا أجادتهم الاستخدام المزدوج للطروحات والافكار والمنابر السياسية والدينية طوال أكثر من ثماني سنوات، وتفعيلها لصالح توجهاتهم المضادة للشعب والوطن. فعلى الرغم من أنهم دُعاة الاكثرية الطائفية الحاكمة، وأول من أرسى دعائم الاقصاء والتهميش وأولوية الهوية الطائفية، ونقل أنتماء العراق من مُحيطه العربي الى المحيط الاقليمي الطائفي. لكن الدعوة الاخيرة لانشاء أقليم المحبطين كانت أكبر أستثمار سياسي لهم، كي يزايدوا على كل الوطنيين العراقيين بوطنيتهم الزائفة.
لذلك لم يتأخر كبيرهُم في الظهور بلباس القدّيس الوطني أمام مؤتمر عشائري في بغداد،
مستثمرا تلك الدعوات المجنونة بتغيير الخارطة الجغرافية للوطن على أسس طائفية مقيته. متظاهرا بالحرص على الوحدة الوطنية، بينما يتربع على عرش حزب طائفي كانت صولاته مشهودة في الحرب الطائفية الماضية، وساهمت ولازالت أجهزته الامنية والاستخباراتية في تأجيج هذا التمايز. فراح يعزف مجددا على المظلومية وتمثيل دور الضحية بالقول (المشكلة في البلد أن البعض لايقبل بالاخرين شركاء، وأعتادوا عليهم ليسوا شركاء، وعدم القبول بالاخر شريك هو سبب تأزم الاوضاع ويهدد وحدة العراق)، متناسيا عدم قبوله بأستحقاقات الاخرين عندما تقدموا عليه بالاصوات فيما سمي (الانتخابات)، وكيف شكك بذلك وطالب بأعادة الفرز والعد وماطل وساوم حتى عاد له المنصب بمسرحية الكتلة الاكبر. يومها وقف متحدثا في الكتلة الطائفية الجديدة (لقد ضربنا المؤامرة لكنها لن تكون الاخيرة) محذرا من أن فوز الاخرين عليه كان مؤامرة أقليمية كبرى لاعادة المظلومية، وأن ضربها اليوم لا يعني أنتهاءها، وهو أعتراف رسمي بأن تهميش وأقصاء الاخرين سوف يبقى قدر على جميع العراقيين ممن ليسوا مع العملية السياسية الطائفية، ولا يؤمنون بأن المالكي المخلّص الوحيد في العراق.
لقد أنتحرت فلول الطائفيين القدامى القادمين من جبهة التوافق والحزب الاسلامي العراقي. الذين أتحدوا مع طائفيين جدد أخرين ليشكلوا قائمة العراقية. أنتحارهم الاول كان عندما قبلوا بالتقسيم الطائفي والاثني الذي جائت به العملية السياسية، والذي جعل من مؤسسات الدولة وأجهزتها أقطاعيات خاصة بكل فئة لا يحق للاخرين الدخول اليها، لذلك لم يرشحوا لوزاراتهم أي وزير من قومية أو طائفة أخرى، على الرغم من أدعائهم بأنهم وطنيون لاطائفيون، وأن في قائمتهم جميع الاطياف.
وأنتحروا مرة ثانية وكانت هي القاضية، عندما أجتمعوا في دار أحد قادتهم ليناقشوا أعلان الفدرالية في المناطق التي فازوا فيها، ثم تبع ذلك تصريح النجيفي بهذا الخصوص. بينما كان الاجدر بهم أن يناقشوا سبب أخفاقهم في تحقيق أبسط مطالب الشرائح الشعبية التي صوتت لهم، ووضع الخطط الفعالة للنهوض بالعراق من محنته، وليس التوسل بوسائل ضعيفة لتبرير ذلك من قبيل عدم وجود صلاحيات لديهم، لان المواطن البسيط سوف يتساءل بكل عفوية عن جدوى وجودهم كل هذه السنين في مواقع لا تؤمن من خوف ولا تسمن من جوع.
أن الاحزاب والتيارات والتكتلات السياسية في أي بلد من بلدان العالم، وكذلك المنظمات
والهيئات التي تعنى بشؤون الوطن والمجتمع، أنما هي مدارس فكرية وثقافية تخلق وتطور وتنمي المفاهيم التي يقف عليها البناء السياسي للمجتمع، وهي ينابيع نضوح ناضج لثقافة متجددة يفترض أن تلائم تطورات العصر واللحظة الراهنة، بالاضافة الى أنها قناة فعالة لتوحيد المطالبات الشعبية، بأتجاه تعديل السلوك الحكومي في كافة المجالات التي تتولاها السلطة السياسية. لكن هذه الطاقة الايجابية التي يفترض أن تنتجها الاحزاب السياسية، تبقى قاصرة عن تحقيق أهدافها في حالة عدم قدرة الاحزاب على تحقيق رؤية موحدة نخبوية
وطنية داخل المجتمع، تتصدى لايجاد حلول لقضايا الامة والوطن من منطلق جمعي لافئوي. فهل توصلت القوى السياسية العاملة في المشهد السياسي القائم اليوم في العراق الى نقطة شروع مشتركة للقيام بهذه المهمة؟.
يقينا أن هذه القوى تفصلها مسافة سنوات ضوئية كثيرة عن ذلك، لان أسس تأسيسها لم تكن وطنية بل طائفية وقومية، فكانت مناهجها تعطيها القدرة على السبـــاحة في القنوات الصغيرة فقط، وعندما وصلت السلطة بجهود الضامنين الاقليمين والدوليين، وجدت نفسها غير قادرة على السباحة في بحر الوطن والتصدي لمهماته الكبرى، فأنكفأت الى وحدات أصغر حتى من الطائفة. لذلك نراها اليوم ترتع وتلعب في حدود الفئوية والحزبيــــة الضيقة، وباتت قراراتها تصب بما يؤمن مصالحهـــا فقط. أنها دعوة لكل القوى الوطنية العراقية أحزاباً
ومنظمات وهيئات وأفراد، الى الشروع بحوار جاد للتصدي لكل هذا الاسفاف المنهجي
الذي تقوده قوى السلطة، ووضع خارطة طريق واضحة للنهوض بالعراق قبل التشظي المحتمل.
' باحث سياسي عراقي