ما هكذا تورد يا نسرُ الإبل!! د. محمد بشار الفيضي الاستاذ الفاضل المشرف على شبكة الوليد للإعلام أرجو التفضل بنشر هذا المقال على شبكتكم المتميزة ولكم مني كل تقدير واحترام د:محمد بشار الفيضي
لم أفاجأ بالتهجم عليَّ عبر مقال أمضى عليه صاحبه باسم: المقاتل النسر والرفيق رأفت علي، على موقع البصرة نت، نشر يوم الجمعة المنصرم الموافق:28/10/2011م ، وذلك لأن هذا الموقع مولع بمهاجمة هيئة علماء المسلمين منذ 2004م، وإلى حد قريب، ووراء ذلك أسباب معروفة لم يأت الوقت المناسب لذكرها. ومن حسن حظ المهاجمين أننا ننتمي إلى مؤسسة كريمة، واسعة الصدر، لا تفارق الحكمة خطواتها، وهي ـ في العادة ـ تأبى الرد على من يهاجمها، أو يهاجم أحدا من أعضائها، مخافة أن ينشغل الناس عن القضية الكبرى للعراق بجدالات جانبية، ليس الظرف العصيب الذي يمر به العراق مناسبا لها. واليوم انبرى في الموقع نفسه كاتب آخر، للهجوم على مؤسستنا، ونضح بما في إنائه، وهاجمني باسمي الصريح، وأجدني مضطرا إلى الرد، ليس رغبة في الرد، وإنما لإزالة الغبش عن الذين يحملون نظير هذا الفهم الخاطيء لخطابات الهيئة بمن فيهم السيد رأفت علي النسر الرفيق، وسألتزم بإذن الله بالضوابط التي تعتمدها المؤسسة في مثل هذه المواقف. وأجمل الرد في النقاط الآتية: أولا: أبدأ بعنوان الصورة التي صدَّر بها السيد رأفت مقاله، وهي تتضمن صورتي أثناء إلقاء كلمتي أمام القذافي، وعنون لها بعنوان طويل، وردت فيه كلمات مختلقة علينا، وهي قوله: (بيانهم الذي يبارك للناتو وثواره قتل القائد معمر القذافي) ووجه الاختلاق هنا أن البيان لم يهنىء الناتو، ولا حتى الثوار، بغض النظر عما وصفهم به، بل هنأ الشعب الليبي بشأن الحرية، وهذا نص المقطع الذي ورد في بيان الهيئة بهذا الخصوص: (نهنئ الشعب الليبي الشقيق بالوصول إلى مرحلة متقدمة في سبيل نوال الحرية الكاملة) والفرق بين ذلك وبين ما اختلقه السيد رأفت واضح، لمن يفهم اللغة العربية، ويدرك أبعادها ومراميها. ثانيا: استعرض السيد رأفت عددا من الآيات الكريمة، والأحاديث النبوية، وآثار الصحابة رضي الله عنهم، الدالة على حرمة استعانة المسلمين بالكفار ضد المسلمين، وكأن الهيئة أفتت بجواز الإستعانة، وهي لم تفعل ذلك كما فعل غيرها، والسيد رأفت كان حريا به قبل أن يجهد نفسه في ميدان الاستدلال الشرعي، وهو قطعا ليس من أهله، بل هو ميداننا، أن يقرأ البيان الذي صدر من الهيئة مخاطبة به الليبيين فور تدخل الناتو، وهو برقم (771) ولن أثقل الرد بسرد البيان كله، بل سأقتطع منه ما يناسب المقام. جاء في بيان الهيئة حول تدخل النيتوما يأتي: أولا: إن قادة الغرب آخر من يفكر بحماية المدنيين، فلا تغرنكم منه هذه العواطف الكاذبة، وإن الدول التي تقود هذه الحملة العسكرية في ليبيا تحت هذه الذريعة، هي ذاتها التي تورطت بقتل مئات الآلاف من مدنيي العراق وأطفالهم منذ سنة 1991م وحتى تاريخ اليوم، وستعمل آلتهم العسكرية على قتل العدد الكبير من المدنيين في ليبيا، وسيعرضون الآلاف منهم لخطر الإشعاع الذي ستخلفه مقذوفاتهم الصاروخية المخضبة باليورانيوم، التي لن يترددوا في استعمالها، وسيلحقون أفدح الخسائر بالاقتصاد الليبي. ثانيا: إن دوافع هذا القرار لا تخلو من المطامع الغربية في النفط الليبي، وإيجاد موطئ قدم في المنطقة، لاسيما بعد أن زعزعت الثورات العربية مواطئ هذه الأقدام في عدد من الدول العربية، فضلا عن نوايا التقسيم، فالأغراض الشخصية، والخصومات التي أكدت التجارب أن كثيرا من قادة الدول في العالم لا يختلفون في طبيعة خصوماتهم، ونزعاتهم الانتقامية عن أي مجتمع يفتقر إلى الرقي في علاقاته الاجتماعية. ثالثا: إن الاعتماد على الأجنبي في مواجهة الحكام، يضعف القضية ويغض كثيرا من شرعيتها، ويفقدها مقومات البقاء، وسمو الأهداف، ويفضي بها في كثير من الأحوال إلى الوقوع ـ في أقل تقديرـ أسيرة أجنداته وأهدافه. وبناء على ما تقدم فإن شعبنا الليبي الشقيق مدعو إلى البحث عن وسائل أخرى تقيه ما يجري على أرضه، وتدفعه ـ بعد الاعتماد على الله سبحانه ثم على نفسه ـ إلى اتخاذ قرارات شجاعة تفوت على جميع الأعداء الفرصة في النيل منه قضية وتاريخا وثروات. إ.هـ هذا ما جاء في بيان الهيئة بهذا الخصوص، فلا أدري لماذا تعجل السيد رأفت، وخاض غمارا غير غماره، وتقوَّل علينا بعض الأقاويل. والملاحظ ان خطاب الهيئة في بياناتها غير خطابها في فتاواها، فهي هنا لا تعتمد لغة الحلال والحرام مثلا، لأن البيانات تتضمن ـ في العادة ـ مواقف سياسية، وهي مواقف تراعى فيها ثوابت الشرع، ومصالح العباد والبلاد، ولكن بلغة البيان السياسي. وليتنبه السيد رأفت وغيره، أننا قلنا: (الاعتماد على الاجنبي ، يضعف القضية ويغض كثيرا من شرعيتها...إلخ)، ولم نقل يفقدها الشرعية، وهذا التعبير دقيق ومقصود منا، لأن ثمة فرقا بين الغض من الشرعية، وبين الحكم عليها بالفقدان تماما، كما يفعل السيد رأفت ومن يقف وراءه، إذ لا يمكن لخبير بالشرع أو بالسياسة إذا كان يحترم كلمته، ويتوخى الدقة فيما يصدر عنه من قول أن يلغي الشرعية لثورة شعب يستمد الحاكم منه ـ بالأساس ـ شرعية الحكم، بذريعة تدخل جوي للنيتو، يعرف علماء الدين والقانون بوجود فرق كبير بينه وبين الإحتلال، رغم وضوح موقفنا من هذا التدخل ابتداء، ورفضنا له، وفضحنا لنواياه، وهناك تفاصيل كثيرة حول هذا الموضوع يصعب سردها الآن. ولتوضيح الأمر أقول: الثورة هي انتفاضة الشعب، وإظهاره ما يعانيه بحراك وهيجان انفعالي يعبر عن معاناته وسخطه وغضبه بالفعل الرافض لما أصاب أبناءه من قهر أو ظلم أو استعباد وسلب لكرامتهم الإنسانية أو الشخصية، ومن البديهي ان الشعوب هي التي تقوم بالثورات، وجماهيرها هي التي تنتفض بانفعال وغضب وسخط يصل حد الهيجان. والشعوب لا تقوم بذلك إلا حين ينفد صبرها، ويتجاوز الظلم طاقتها، ولذا تغلب على هذا النمط من الثورات العفوية والصدق. وهنا يأتي دور العلماء والنخب تجاه هذه الثورات، وهو: رعاية انفعال الشعب وانتفاضته لغرض تنظيم حركة الجماهير زمانا ومكانا بحسب الضرورة التاريخية، واغتنام الفرصة المناسبة بقصد الإصلاح، ورفع الظلم، أو التغيير. وهم يفعلون ذلك وجوبا من وجهين: الأول: إنهم جزء من الأمة، ويجب عليهم نصرتها، ويحرم عليهم خذلانها لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله). أخرجه أحمد (2/277 ، رقم 7713) ، ومسلم (4/1986 ، رقم 2564) . وأخرجه أيضًا: البيهقي (6/92 ، رقم 11276) الثاني: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما . فقال رجل : يا رسول الله ، أنصره إذا كان مظلوما ، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره ؟ قال : تحجزه ، أو تمنعه ، من الظلم فإن ذلك نصره) رواه البخاري ( 6952) ومن المعلوم شرعا إن الأمة إذا ثارت على الظلم فيجب على الجميع نصرتها ومنهم العلماء، بل هم أولى الناس بذلك لحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (..والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم )رواه أبو داود والترمذي واللفظ لأبي داود. أما القفز على إرادة الجماهير، وتجاهل ثورتها على ما كانت تحس به من ظلم لعقود، وتجريدها من أية شرعية، لصالح زعيم يستمد في الأساس شرعيته من هذه الجماهير، بدعوى تدخل الناتو جويا، رغم إقرارنا أن ذلك ليس خطأ بل خطيئة، أقول هذا ليس من الإسلام في شيء، ولا من الإنصاف في شيء، ولا يقدم عليه إلا من له مآرب أخرى تقوم على الاصطياد في الماء العكر، وتوظيف الأحداث لمصالح دنيا شخصية او حزبية او فئوية، وهي ممارسات يقدم عليها اليوم عدد من الجهات المعروفة لأهداف معروفة، إذ لا يمكن لعاقل يحترم عقله، ويفقه القيم الإنسانية، ويعرف الأسس الصحيحة التي يقوم عليها بناء المجتمعات والدول أن يتنكر ـ في مثل هذا الظرف ـ لإرادة الشعب الذي هو مصدر الشرعية للحاكم. على ان من المناسب القول إن ذلك لا يعني اننا واثقون تماما من نجاح هذه الثورة، ولا غيرها، فمازالت هذه الثورات محفوفة بالمخاطر، ويحاول الغرب بكل الوسائل اختراقها وتوظيفها، لاسيما مع غياب الدور المؤثر المفترض لعلماء الأمة وحكمائها الذي من شأنه إحكام السيطرة على خط الثورة وضبط مسيرتها، والذين لوكان لهم دور مؤثر بالفعل، ما انزلق القائمون على المشهد الليبي إلى القبول بتدخل النيتو. لكن هناك قاعدة فقهية تقول: (مالا يدرك كله لا يترك جله) وبالتالي واجب العلماء والحكماء هو تقديم الممكن من الإرشاد والتقويم للجماهير الثائرة، لحفظها قدر الإمكان من الشطط، والدخول في الفوضى،والوقوع في الخطايا. حتى إذا غضبت الجماهير ـ جدلا ـ وخرجت عن طوع العلماء وإرشادهم، أو تحركت في الوقت غير المناسب، أو انزلقت إلى ارتكاب الأخطاء، فينبغى الا يتخلى عنها العلماء، بل يلاحقونها، ويرعون شأنها بعزم وبلا تردد، ويبصرونها بمواقع الخطأ والصواب، لأن هذا جزء من مسؤوليتهم الإسلامية تجاهها . وفي هذا السياق جاءت تهنئة هيئة علماء المسلمين للشعب الليبي، وكذلك من أجل التواصل في النصح، الذي عرجنا على بعضه آنفا عبر بيان سابق، ولذا كان من النصح لهم دعوتهم لتغليب جانب الرحمة في التعامل مع الخصوم، والتسامي على نزعات الثأر والإنتقام، والتنبيه على ما تحمله المرحلة القادمة من تحديات وفتن ، وضرورة العمل على البناء السياسي القويم، واستجلاب الأمن والاستقرار والحرية الكاملة للبلاد، والتحذير من قيود الغرب الذي سيحاول تطويق الشعب الليبي بها تحت ذرائع شتى، وعنينا ان يطالب باستحقاقات نتيجة تدخله جوا، وانتهينا إلى الترحم على كل من نزف الدم من أبناء الوطن بنية الحفاظ على دينه ووطنه، وتعمدنا استعمال هذه الصيغة في العموم كي لا نقصر دعاؤنا بالرحمة على من لقي حتفه من الثوار، فقد يكون من الذين قاتلوا في الصف الآخر من لهم النية ذاتها، وحينئذ ستكون الرحمة بدعائنا لجميع هؤلاء، ومن المعروف في مثل هذه الحالات أن الناس يبعثون على نياتهم. هذا كله ورد في بيان التهنئة للشعب الليبي الذي صدر من هيئة علماء المسلمين في 24/10/2011م وبرقم(804). ولا أدري بعد ذلك، ما المصلحة المتوخاة الآن من القيام بإحداث قطيعة مع الشعب الليبي، وهو في بداية تأسيس جديد للبلاد، من دون شك إذا تخلى العرب والمسلمون عن هذا الشعب سيجد الغرب فرصة سانحة له ليقوم هو باحتوائه، وعزله عن هذين العالمين!! هناك من يسمح لنفسه ـ كما فعل كاتب آخر اعتمد النسر الرفيق مقاله ـ مقارنة ما جرى في ليبيا، بما فعله أحمد الجلبي في العراق حيث كان له دور بإحضار القوات الأمريكية إلى العراق واحتلاله، أو بما فعلته الصحوات في العراق، وهذه مقارنة غير منطقية، والبون بينهما شاسع، رغم ان الوضعين شاذان، ومحبطان، وأضرا كثيرا بالعالمين العربي والإسلامي، ففي العراق الجلبي وأمثاله دعموا احتلالا محضا، وساندوا استيلاءه المباشر على أرض المسلمين، والصحوات كانت هي الأخرى تقدم الدعم المباشر لجهود المحتل في القضاء على مقاومة الشعب ضده تحت ذريعة محاربة الإرهاب، بينما الذي جرى في ليبيا مختلف، فالنيتو دخل جوا، وليس له قواعد داخل الأرض الليبية، وكان تدخله بعد إندلاع الثورة بشهور، وتحت ذريعة ـ بغض النظر عن الحديث في مصداقيتهاـ تقديم الدعم للثوار ضد حاكمهم الذي بدأ يبطش بهم من دون رحمة وهم عزل في بداية ثورتهم، فالمقارنة ـ والحالة هذه ـ خبط عشواء، لا يقوم بها حصيف، ولايجرؤ على البوح بها من يملك قدرا ولو ضئيلا من الفهم الشرعي أو السياسي، لأنه لا وصف دقيق يجمع بين هذه الأحداث، ولا علة معتبرة لإجراء عملية القياس بينها. على أنني أحب هنا أن اكشف عن دور قامت به هيئة علماء المسلمين للوساطة بين الطرفين الليبيين في الأشهر الأولى من الثورة، لتفادي سكب المزيد من الدماء، والتوصل إلى حلول وسطى بين الطرفين، وبذلت في سبيل ذلك جهدا،بيد أنها ـ للأسف الشديد ـ لم تلق تعاونا مناسبا، وشهود هذه الوساطة مازالوا احياء، لكن هيئة علماء المسلمين لا تجد نفسها مضطرة لتكشف عن كل مساعيها للسيد رأفت أو غيره، فهذه أمور الله مطلع عليها، وهو يجازي أصحابها على صدق نياتهم. ثالثا: السيد رأفت يرى في زيارتي ضمن المجموعة التي التقت القذافي، وإلقائي كلمة أمامه، وتقديمي له مصحفا، تناقضا مع موقف هيئة علماء المسلمين من الثورة الليبية. وعلى الرغم من ان السيد رأفت لم يلتزم بآداب الحوار، وعليه فلا يستحق مني كلمة ثناء، لكنني سأشكره على أنه أتاح لي فرصة لتوضيح شأن هذه الزيارة، التي اعترض عليها بعض الناس في حينها، على الرغم من مقاصدها المجردة. وقصة الوفد تبدأ حين طلب السفير الليبي في عمان السيد محمد البرغثي في زيارة للأمين العام في مقر إقامته بعمان المشاركة في وفد لزيارة العقيد القذافي، لأن القمة العربية ستعقد في سرت بعد أسبوع، ولأن القذافي ـ حسب ما أفاد ـ عازم على تبني قضية العراق في القمة، كما طلب أن نتقدم له بهدية بمناسبة الزيارة. وحسب العادة السارية فقد نوقش الأمر مع أعضاء الأمانة العامة لهيئة علماء المسلمين، ولما كانت القضية العراقية محاصرة دوليا، وعربيا منذ سنوات، وكانت السياسة المتبعة لدى الهيئة إبقاء الأبواب مفتوحة مع العرب قادة وشعوبا، رغم ما لقيناه، لأننا جزء من الوطن العربي، وهو عالمنا بما له وما عليه، كان الرأي أن نلبي هذه الدعوة، لبيان النصح والتذكير، ورغبة في تحقيق شيء يخدم قضيتنا، وتوجهت النية لتقديم مصحف شريف للعقيد الليبي؛ لأن في ذلك رسالة واضحة، تتناسب مع وضعنا، ومهمتنا. وأثناء الزيارة كنت من الذين أتيحت لهم الفرصة للإدلاء بكلمة، وهي موثقة صوتا وصورة ـ والحمد لله ـ وقد أحال السيد رأفت نفسه إلى رابطها على مواقع الإنترنت، وسأسردها الآن لنرى بعد ذلك ما المشكلة فيها: كلمتي أمام العقيد القذافي قبيل قمة سرت: (الأخ قائد ثورة الفاتح المحترم: في البدء نسجل شكرنا الجزيل وامتنانا الكبير على هذه الفرصة الكريمة ، فلم يقم رئيس عربي بمنح القوى الوطنية المناهضة للاحتلال ولعملياتها البائسة، هذه الفرصة في الشأن العراقي. الأخ القائد: في ظل القطب الواحد للعالم تغيرت أشياء كثيرة، فجأة وجد الناس أنفسهم أمام غول يريد أن يلتهم كل شيء، دولة عظمى ترى نفسها مؤهلة لقيادة العالم أخذت تجر العالم إلى مصير مجهول، والبداية الساخنة كانت في منطقتنا إذ أقبلت على احتلال العراق بدون مسوغات .. بدون إذن دولي وتحت ذرائع ملفقة لا تمت إلى الحقيقة بصلة . بعد سبع سنوات من هذا الإحتلال ، فإن العراق اليوم هو الأسوأ في شتى الميادين، واسمح لي أن أعرج على ذكر هذه المفردات ، «المذبحة واليأس ، النظام والقانون ، والانتعاش الاقتصادي، أصبحت أموراً بعيدة المنال، النظام التعليمي والصحي شارفا على الانهيار في العراق، الوضع الإنساني في العراق كارثي، أزمة العراق إنسانية لا تلين، الأوضاع في العراق الأكثر خطورة في العالم». هذه ليست كلمات من نسيج خيال كاتب يجيد قصص الرعب، ولا كلمات شاعر عرف بتشاؤمه؛ هذه كلمات وردت في تقريرين دوليين لرصد الأوضاع في العراق صدرا في سنة 2008، أحدهما عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والآخر عن منظمة العفو الدولية. ومع ذلك يصر المحتل على القول بأنه نقل العراق من عهد الظلام، إلى عهد الحرية والديمقراطية المزعومة. الأخ القائد: لا يهمنا ماذا يقول المحتل، ففي العراق أبناء بررة يقدمون له الجواب على مقولته هذه على نحو ما قاله هارون الرشيد لكبير الروم (الأمر ما ترى ، لا ما تسمع). لكن ما يهمنا ماذا يقول العرب ، نحن جزء من عالم عربي نرتبط وإياه بوشائج الدين والتاريخ والحياة والتقاليد ، لماذا يصمت العرب عن معاناتنا ؟! لماذا يتخلون عن دعم قضيتنا ؟!.. العرب نريد منهم أن ينظروا إلى قضية العراق على أنها قضية تحرر وطني تماما كما يحدث مع أي قطر يتعرض للاحتلال والعدوان. نريد منهم أن يتخلوا عن مسايرة المحتل في رسم سياساته للعراق، وأن يكفوا عن تسويغ مشاريعه البائسة لاسيما العمليات السياسية المتعاقبة التي فرضها عنوة على الشعب العراقي تحت شعار الديمقراطية، والذي وثق اليوم دوليا أن أقطابها متورطون في التطهير الطائفي والعرقي وفي الفساد الإداري وفي دفع العراق إلى الجانب الأسوأ . نحن بحاجة يا أخانا القائد، إلى أن تنفتح الدول العربية على هذه القوى الوطنية، أن تمدها بالدعم اللوجستي السياسي الإعلامي، أن تعطيها فرصة لتظهر بشكل علني تعبر عن مواقفها تجاه قضيتها وعن رؤيتها للحل في العراق، لا أن تتعمد تجاهلها بشكل قاس ، وكأن العراق يعيش في قمة الحرية وفي بحبوحة من العيش الرغيد والآمن!!. إن رئاستكم أخانا القائد للقمة، تجدد فينا أملاً أن يحظى هذا الملف باهتمام كبير، إننا نطمح إلى دور عربي فعال عسى أن يكون ذلك قريبا ، وعسى أن تكون البداية من هنا بما عُهد عنكم من شجاعة في الحوار مع قادة العالم فضلا عن قادة العرب. شكرا لكم ، وفقكم الله وسدد خطاكم )). هذه كلمتي وكان فيها ـ كما هو واضح ـ رصد للمعاناة في العراق، وتنبيه على إهمال القادة العرب للقضية العراقية، ونصيحة للعقيد وللقادة العرب بدعم هذه القضية، فما المعيب في ذلك؟!. لن أخوض في تقييم شخصية القذافي، لكنني أقول إذا كان الرجل حاكما رشيدا، وبطلا قوميا كما يرى السيد رأفت ومن معه، وآخرون، فالنصيحة الصادقة هي أفضل ما تقدمه في مثل هذه المناسبة، وإذا كان حاكما جائرا كما يراه الثائرون من شعبه، وكثيرون، فيكفيني الحديث النبوي الشريف: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر..). على ان النصيحة كان فيها وضوح وصراحة، ولهجة فيها حدة يتطلبها المقام، وليست فيها أية مجاملة، وإذا ظن البعض أن في قولي له: (الأخ العقيد) شيئا من المجاملة فهو وهم، لأن كلمة الأخ هي المتبعة رسميا في مخاطبة الرجل، كما يقال لآخرين: جلالة الملك، سمو الامير، إلخ، وهذا وصف بروتكولي معروف ومعلوم للجميع، وليس تزكية، أما شهادتي له بأنه معروف بشجاعته في الحوار مع قادة العالم فضلا عن قادة العرب، فهي كلمة حق، لا ينكرها احد له، وخطابه الأخير في الأمم المتحدة شاهد على ذلك، وقد أردت من ذكر هذه الصفة ـ التي يتحلى بها حقيقة ـ تشجيعه على الوفاء بوعده بخصوص دعم قضية العراق في مؤتمر القمة العربي، ومن المناسب الآن تسجيل شهادة أنه لم يفعل ذلك، ولم يف بالوعد، هذا على الأقل ما تبين لنا من خلال ما نقلته وسائل الإعلام من أحاديث له في المؤتمر، وما نقله لنا بعض المسؤولين العرب عما دار بينه وبين القادة العرب في الغرف المغلقة، وفي حوارات غير معلنة. وكذلك ما جرى في الجلسة الرسمية للقمة التي هدد فيها ممثل الحكومة الحالية في العراق بمقاطعة المؤتمر بسبب مقابلة القذافي لوفد القوى المناهضة للاحتلال، وتم تهدئته وتحقيق مطالبه، وظهر أثر ذلك واضحا في البيان الختامي للمؤتمر الذي كان مؤسفا بكل المقاييس. أما الهدية التي تقدمت بها إليه نيابة عن هيئة علماء المسلمين، ومررت على قصتها آنفا، فقد كانت نسخة من المصحف الشريف، مع كلمات مسجلة هي الأخرى صورة وصوتا، ونقلها السيد رأفت، وهي قولي له :(هذا كتاب الله ، وهو حبله الممدود من السماء، وهو ميثاق بيننا وبينكم). ولا أدري كيف فسر السيد رأفت، هذه الكلمات على انها مجاملة، لأنها ليست كذلك، بل هي إقرار بأن القرآن الكريم هو الحاكم بين الشعوب والحكام، وهو الجامع بينهم أو الفيصل. بقيت كلمة أخيرة، لم أفهمها، ختم بها السيد رأفت مقاله، جاء فيها قوله: ((حسبنا الله ونعم الوكيل في ناكثي العهد، وحانثي القسم)). فنحن في هيئة علماء المسلمين لسنا منتمين لحزب معين، ولم نبايع قائدا ما من قبل، وبالتالي ليس لنا مع أحد عهد أو قسم، لا مع العقيد القذافي ولا مع غيره، فذكر النسر الرفيق كلمتي الحنث والنكث في ختام مقاله، فضلة من الكلام لا قيمة لها. وبعد: فلا أجد كلمة أختتم بها هذا المقال أصدق من التعبير بالمثل السائر الذي جعلت منه عنوانا للرد مع تصرف يسير: ما هكذا تورد يا نسرُ الإبل!! |