بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول لاالله وعلى آله وصحبه ومن والاه
وبعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حين تلقت هيئة علماء المسلمين في العراق نبأ وفاة أمينها العام الشيخ المجاهد والعالم الرباني الدكتور حارث سليمان الضاري، كان يقتضي ذلك منا كاعضاء في الأمانة العامة أن نصوغ بيانا نعلن فيه عن وفاته، ولما وصل الأمر إلي لأدلي دلوي ، وقفت لدقائق عاجزا عن كتابة أي شيء، لا لضيق في ذات يد القلم، بل ألفيتني أمام بحر زاخر بالمناقب والفضائل، والسيرة العطرة الكريمة، المملوءة بالعلم الدعوة والجهاد، ومقارعة الظلم، وكان الذي دار في خلدي وقتها: من أين أبدأ، وعلى ماذا أعرج، وماا لذي أوثره بالذكر وما الذي يمكنني أن اتجاوزه..
لقد كتب احد الفضلاء مقالا في صحيفة عربية يرثي فيه شيخنا الجليل، قال فيه: من أصعب انوع الكتابة ان تكتب عن فقد قامة وزعيم وقائد في الوقت نفسه ، حينها قد يتعذر عليك إيفاؤه حقه، تماما كما يتعذر عليك الفرز بين المحبة والمودة، والإعجاب بقامة من مثله، حتى قد يظن المتلقي أنك ربما تحابي المحبة على حساب الواقع،ولكن قامة مثل الشيخ حارث الضاري لن يفيها حقها أسطر معدودوة، وأقول لهذا الأخ الفاضل صدقت، وأنا مثلك اليوم اجدني في هذه الموقف متلبسا بالحرج نفسه فلن تفي فقيدنا كلمات في دقائق معدودة عبر هذه المناسبة..
فرحم الله شيخنا الجليل، الذي أفضى إلى ما قدم، وأسكنه فسيح جناته، وجعله في صحبة الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا..
أيها الإخوة الكرام..
كنت قريبا جدا منه، وشاطرته الكثير من المواقف الحرجة، والاحداث الجسيمة، وصحبته في معظم لقاءاته بالقادة والزعماء، والملوك، ورأيت فيه مالم أر في سواه من عفة النفس وعزتها، وصلابة الموقف وحكمته، والإيمان بالقضية، والإستناد إلى الثقة بالله في مواجهة الشدائد والصعاب..
وأذكر موقفا لا أنساه أبدا، كان ذلك بعد قرار مقاطعة الانتخابات الأولى الذي اتخذته هيئة علماء المسلمين والقوى والحركات والجهات المناهضة للإحتلال وما تلا ذلك من قيام بعض الأحزاب باتخاذ قرار المقاطعة نفسه بعد أيام، فقد فوجئ الناس بمشروع الاحتلال وسياسات حكومته باستهداف مكون بعينه بالقتل والتعذيب والإقصاء، وأصابهم إحباط شديد، وبدأوا يلومون الاحزاب التي كانت تقول انها تمثلهم، فلم تجد هذه الأحزاب مهربا من ملامة الناس سوى بتعليق فشلها على قرار المقاطعة هذا، ومع انها قاطعت أيضا، ويفترض أنها شريكة في المسؤولية للآخرين إلا أنها إستطاعت بما لديها من وسائل إعلام وغيرها تغييب الحقيقة عن الرأي العام، والتنصل من المسؤولية، وتحميل الهيئة لوحدها مسؤولية قرار المقاطعة، وعزو كل أسباب الظلم الذي تعرض له أهلنا في مناطق شمال العراق وسطه على يد حكومة الاحتلال إلى مؤسستنا، والزعم بان مقاطعة الهيئة لتلك الإنتخابات كانت هي السبب الأول والأخير في كل ذلك، وانهم كأحزاب سياسية بريئون من المسؤولية براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام.
أذكر في ذروة ذلك الأمر تعرض اعضاؤنا لحرج شديد، وكان ينقلون لنا لوم الناس لهم، حتى خالجنا شعور أن الأمور بدأت تضييق علينا، وهنا تتجلى حكمة الفقيد، وصلابته ، وقراءته الدقيقة للمستقبل، وقبل ذلك وبعده ثقته بربه، ففي ليلة من الليالي إلتقيته وحيدا وعرضت له الامر، وصعوبة الموقف الذي نمرُّ به، فقال لي يا دكتور محمد، هذا تضليل مقصود من هذه الجهات لتخفي فشلها، وهذه السياسة في القتل والإعتقال والتعذيب والإقصاء ممنهجة، ولن تتراجع، ولاعلاقة لها بقرار المقاطعة، لأنها ستزداد أضعافا مضاعفة في قابل الأيام، حتى لو اشترك الناس جميعا بمن فيهم الأطفال في الانتخابات، وسيكتشف الناس قريبا أن العلة في العملية السياسية نفسها، وليس في المقاطعة، ومع ذلك فإن مقاطعتها خير من المشاركة فيها، لأن المقاطعة ستجعل المجرم مكشوفا أمام العالم، ليس له غطاء، أما المشاركة فيها فستمكن المجرم من فعل الجريمة والقتل والاعتقال والتطهير باسم القانون، على اعتبار أنه يمثل حكومة منتخبة من الجميع.
يا دكتور محمد هذه هي الحقيقة مهما حاول هؤلاء إخفاءها، وهذا هو الحق الذي لا ينبغي أن نتخلى عنه مهما كانت الظروف..
يا دكتور محمد لو ذهب الناس جميعا خلافا لهذا الحق وبقينا انا وأنت لوحدنا معه فقط فلا ينبغي أن نضعف أو نتراجع لأن الحق لا ينقلب باطلا، ولأن الناس بنفسها ستكتشفه في يوم ما، وستتذكر انها خسرت كثيرا حينما لم تستمع لنصحنا، ولكن للأسف ـ قالها بمرارة ـ سيحدث ذلك بعد أن يكون الناس قد دفعوا ثمنا غاليا..
وهذا ما حصل، واليوم يدرك العراقيون أنهم خدعوا ، وكانوا ضحية لمشروع قائم على إستهدافهم وتصفيتهم، وإفقارهم وسلب ثرواتهم واموالهم، وتدمير ثقافاتهم..
ومن المفارقات أن كثيرا من المشاركين في العملية السياسية التقوا فقيدنا هنا، أو زاروه على فراش المرض في استنبول، أو شاركوا في عزائنا هذا، كانوا يقولون لنا كل ما أدليتم به من تقييم حول العملية السياسية، كان صحيحا، ولم تخطئوا فيه أبدا.
إخواننا الأفاضل كان شيخنا الجليل معروفا بين ساسة العالم بأنه أصحاب اللاءات الخمس، وهي: لا لاحتلال العراق، لا للعملية السياسية ودستورها القائم على المحاصصة الطائفية والعرقية، لا لتقسيم العراق، لا لثلم هويته العربية والإسلامية، ولا لسلب خيراته وثرواته..
اسألكم بالله، واستعرضوا أسباب الظلم الذي تعيشونه، والمرارة التي تقاسونها كل يوم، والدم الذي تنزفونه في كل مكان من أنحاء العراق، والأموال والثروات التي تسرق منكم في وضح النهار، أليس ذلك كله بسبب ان من لا يخاف الله ولا يرحمنا أبدل هذه اللاءات الخمس بنعم..فقال بدلا من لاءات الفقيد : نعم للإحتلال، نعم للعملية السياسية ودستورها، نعم للمحاصصة الطائفية والعرقية ولتقسيم العراق، نعم لثلم الهوية العربية والإسلامية، نعم لسلب الخيرات والثروات..
الفقيد ومن خلال هيئة علماء المسلمين طرح الحل منذ بداية الاحتلال بمشروع العراق الجامع، الذي يتساوى فيه أبناء العراق جميعا على اختلاف مكوناتهم، وإثنياتهم، ويتشاركون معا خيراته، ويتفيئون جميعا في ظلاله، ويؤسسون دولة تكون جنة لرعاياها بإقامة العدل والتعامل بمعيار الإنصاف، مع جميع المنتمين لهذه الدولة، وتكون نموذجا للسلم الأهلي والتعايش السلمي، وهذا ليس جديدا على العراقيين بل هذا هو حالهم وواقعهم عبر آلاف السنين ولا أقول المئات، فهم أصحاب حضارة وادي الرافدين .
كما حذر رحمه الله تعالى من الخروج على هذا المشروع الجامع، والإستسلام لمشروع الاحتلال وعملياته السياسية، لأن هذا من شأنه أن يفتح على العراقيين أبواب جهنم، لأنه سيفسح المجال لامحالة أمام بروز هويات فرعية طائفية وعرقية، ولان العراقيين سيجدون أنفسهم إزاء انقسامات داخلية، وحروب إثنية، لها من يوقدها كلما خبت، ويصب عليها زيتا كلما تراجعت دون الإتقاد..
ولم يخطيء الفقيد ومن معه في التقدير، وانظروا حال العراق الآن.. يسرق عراقيون بلدهم بأنفسهم ليحولوا ماسرقوه أموالا تودع في بنوك دول اجنبية تعادي العراق وتتربص به الشر، وتستفيد من هذه النقود نفسها لإلحاق مزيد من الأذى به وبأهله..ويسفك العراقي دم أخيه، تسانده الدولة الفلانية والدولة الفلانية، هذا يقول يالثارات بني فلان وهذا يقول يالثارات بني فلان، ومثلهم يقول الآخرون في دوامة مالم نضع لها حدا فستمتد الى عشرات السنين وربما أكثر، وستأكل الأخضر واليابس، وتعود بنا إلى عهد الجاهلية الأولى حيث حرب البسوس وأمثالها.
إخواني إذا كان الرجل قد مات، فهذه سنة الله في خلقه، لكن المشروع الذي تبناه لم يمت، وهو خيارنا الأخير، فلنأخذ قرارا بالإنطلاق منه، لا تقولوا ستمنعنا دول عظمى، فإرادة الشعوب يوم تتوافر هي الأعظم، والله وعد ان ينصر المظلوم ولم يقطع وعدا بنصرة الظالم، وثقوا يوم نكون معا، ستضطر الدول إلى تقديم العون لنا، وستنبري أخرى لتفعل ذلك طواعية، لاسيما دول عربية وإسلامية، تريد للعراق أن يعود، ولكنها تنتظر الفرصة المناسبة، ومنها الدولة التي يعيش اليوم معظمكم في ظلها الآمن الأردن الشقيق.
واسمحوا لي من هذه المحطة أن اختم كلمي بتقديم الشكر الجزيل والعرفان لكل الدول العربية الشقيقة التي شاركتنا العزاء بإرسال ممثليها وخطاباتها، والشكر الجزيل والعرفان بالجميل للاردن شعبا وملكا، الذي فتح للعراقيين والعرب الآخرين ممن أصيبت بلدانهم؛ فتح ذراعيه برحابة صدر رغم ضيق ذات اليد، والظروف الصعبة التي يمر بها، وهذا منتهى الكرم، واسمحوا لي أيضا أن أخص بالذكر عشائر الأردن العربية الاصيلة التي شاركتنا زعاماتها وشيوخها من جميع الانحاء والاطياف في العزاء والمواساة.
والشكر نفسه للإخوة الفضلاء والعلماء والشخصيات التي جاءتنا من دول عربية عديدة لمشاركتنا في هذا العزاء، أعادهم ربنا لديارهم سالمين غانمين، وتلك التي حبسها العذر فأرسلت خطابات التعزية والمواساة فللجميع شكرنا وتقديرنا.
واسمحوا لي أيضا أن أقدم شكرنا الكبير معطرا بحبنا وعاطفتنا لكم يا أبناء بلدنا من كل الاطياف والمكونات من شيوخنا في العلم ،ورجال دين، وشيوخ عشائر وقادة عسكريين ونخب وكفاءات وساسة.. لقد سرنا بحق ان هذا المكان ضمكم جميعا، وسرنا أكثر أنكم كنتم من كل الاطياف من شيعة وسنة وعرب وكرد ومسلمين ومسيحيين وغيرهم، لقد كنتم بحق فسيفساء رائعة و معبرة عن مشروع العراق الجامع.
أيها الإخوة والأحباب لن ننسى مؤازرتكم لنا في مثل هذا اليوم، ومشاعركم وأنتم تقدمون لنا كلمات العزاء بحب ودعم كبيرين.
واسمحوا لي أخيرا وليس آخرا أن أشكر أيضا جميع وسائل الإعلام وإخواننا من الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم من الذين آزرونا على مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة تويتر من علماء ونخب