الحرب الأمريكية في العراق مستمرة
الخليج الإماراتية
رغيد الصلح
بعد الانسحاب الأمريكي من العراق، وفي سياق التحضير لمعركة الانتخابات الرئاسية، ينصرف كل من فريقي الصراع الجمهوري والديمقراطي إلى إجراء جردة واسعة لأضرار وفوائد الحرب على العراق . الجمهوريون يسعون، بالطبع، إلى التأكيد أن حرب بوش ضد العراق أنجبت الربيع العربي، وقلبت الأوضاع في المنطقة على رؤوس أعداء الولايات المتحدة . ومن جهتهم، يسعى الديمقراطيون إلى التأكيد أن الحرب كانت خطأ فادحاً، وأن أوباما كان على حق عندما عارضها منذ البداية، وعندما عمل بكل جهد على سحب القوات الأمريكية من العراق .
في الحسابات الديمقراطية، ترتفع الخسائر البشرية بين الجنود الأمريكيين النظاميين لكي تصل إلى 600 .36 إصابة، من هؤلاء نحو 4400 قتيل، و200 .32 جريح . يضاف إلى ذلك عشرات الألوف من العراقيين الذين سقطوا ضحايا للحرب، والذين سيبقون في الذاكرة العراقية عنصراً فاعلاً في التأثير في نظرة العراقيين تجاه الولايات المتحدة، وفي العلاقات الأمريكية العراقية .
وتفاوتت التقديرات عن الخسائر المادية والاقتصادية التي تعرضت لها الولايات المتحدة بسبب الحرب، ففي تقدير لجنة الخدمات البحثية التابعة للكونغرس الأمريكي، بلغ مجموع هذه الخسائر 860 مليار دولار، وارتفعت هذه الكلفة إلى تريليون دولار بحسب تقدير الرئيس الأمريكي أوباما . أما البروفيسور جوزيف ستيغلتز، أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا الأمريكية، وليندا بيلميز الأستاذة في جامعة هارفرد، فإن الفاتورة الحقيقية للحرب بلغت ثلاثة تريليونات دولار .
وكما ارتفعت كلفة الحرب المادية، فإن كلفتها الاجتماعية أيضاً كانت مرهقة، فخلال الحرب لم تنخفض البطالة في الولايات المتحدة، كما حدث في الحرب العالمية الثانية، بل ارتفعت حتى وصلت في أشكالها العلنية والمقنعة إلى ما يوازي 15% من مجموع اليد العاملة الأمريكية . وترتفع نسبة البطالة هذه بصورة ملموسة بين مئات الألوف من المجندين الذين حاربوا في العراق، وباتوا يفتقدون المهارات الضرورية للعودة إلى سوق العمل . وتقفز هذه النسبة بين المجندين الشباب من الأمريكيين الذين حاربوا في العراق إلى نسبة 38% من مجموع اليد العاملة الأمريكية .
يرد الجمهوريون على هذه الأرقام بقولهم صحيح أن الولايات المتحدة تكبدت خسائر مالية وسياسية ضخمة، ولكن الحرب أدت إلى تحقيق فوائد ملموسة . فعلى سبيل المثال، لأول مرة منذ عام ،1974 يفتح قطاع النفط العراقي أمام الاستثمارات الأمريكية، ومن ثم إلى ضمان تدفق النفط إلى الولايات المتحدة . وإذا تمكن العراقيون والأمريكيون من رفع إنتاج النفط العراقي إلى 12 مليون برميل في اليوم الواحد عام 1917 كما هو مخطط، فإن هدفاً رئيساً من أهداف الحرب، ألا وهو تخفيف الاعتماد على النفط السعودي، يكون قد تحقق .
الأهم من ذلك، في تقدير البوشيين، وخاصة المحافظين الجدد الأمريكيين المؤيدين للحرب، هو التغيير المهم الذي أفضت إليه الحرب على مستوى المنطقة ككل، وعلى مستوى القوى السياسية التي كانت تتحكم بها . فالمنطقة عرفت صراعاً بين تيارين رئيسين أسهما في صنع مصيرها، والتأثير في تطورها . من جهة كان هناك الفريق الذي حمل الفكرة العربية والذي دعا إلى تأسيس كيان عربي جامع ومستقل يضم الدول العربية، ويشكل إطاراً للتعاون الوثيق والفاعل في ما بينها . ومن جهة أخرى، كان هناك فريق يرفض هذه الفكرة، ويؤكد الاستقلال الكامل لدول المنطقة تجاه مشاريع الاندماج والتعاون العربي، ويرى أن لهذه الدول أن تبني علاقاتها الإقليمية والدولية بمعزل عن أي التزام بفكرة الرابطة العربية .
لئن كان لفكرة التعاون بين العرب بعض التأييد بين النخب الحاكمة في الغرب، فإن الأكثرية الكبرى بين هذه النخب كانت تقف موقف المعارضة تجاهها، ولم يكتف البعض بالمعارضة السلبية، وإنما ذهب إلى خوض المعارك والحروب أحياناً ضد حكومات ومشاريع عربية توحيدية الطابع والأفق . فحرب السويس ضد مصر الناصرية كانت في الأساس حرباً على هذه الفكرة، وعلى قائدها الأبرز والأكثر شعبية في المنطقة . كما أن دول الغرب كانت تجد صعوبة في إلزام العراقيين احترام الحدود التي رسمتها الإمبرياليات الأوروبية (فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، إسبانيا) للمنطقة في معاهدات التفاهم الودي و”سايكس - بيكو” . وأدت هذه الصعوبة إلى شن ثلاث حروب خلال القرن الفائت والقرن الراهن ضد بغداد .
خلال الحربين التي شنتهما إدارة بوش الأب والابن على العراق، كان الانطباع أن التعقيدات في العلاقة بين دول الغرب والعراق هي وليدة المرحلة الصدامية فحسب . بيد أن المعنيين بشؤون علاقات العراق بالغرب يعرفون أن تلك التعقيدات بدأت منذ قيام الدولة العراقية . ولقد كتب الكثير عن هذه المسألة، ومن بين أهم ما كتب فيها وما يلقي ضوءاً على المواقف تجاه المشاريع العربية في الغرب هو كتاب إيلي خدوري، المؤرخ البريطاني العراقي الأصل، بعنوان “رواية تشاتام هاوس [المؤسسة البحثية التابعة للخارجية البريطانية] ودروس أخرى في السياسة الشرق أوسطية” .
ويكتب خدوري بإسهاب عن العراق في المرحلتين الملكية والجمهورية . وخلافاً للفكرة السائدة التي كانت تقول إن العلاقات بين العراق ودول الغرب كانت نموذجية خلال العهد الملكي، فإن خدوري يرى أن الحقيقة كانت مغايرة لذلك، وأن العلاقات كانت تخضع لتجاذب شديد بين النخبة العراقية الحاكمة التي كانت تتبنى شعارات وأهدافاً عروبية الطابع وتسعى إلى تحقيقها، وبين بريطانيا التي كانت تسعى إلى ترسيخ الدولة العراقية بمعزل عن أية تطلعات عروبية .
وينتقد خدوري، المنحاز كلياً إلى الغرب والذي كان مناهضاً للفكرة العربية، النخبة الحاكمة البريطانية لأنها كانت 'متساهلة' تجاه الاتجاهات السائدة في أوساط النخبة العراقية السياسية . ويرى خدوري والمدرسة التي ينتمي إليها، أنه على الغرب أن يدافع عن مصالحه وقيمه بحزم أكبر ضد الفكرة العربية وضد حملتها، ولقد تصاعدت هذه الدعوات واكتسبت المزيد من التأييد حتى تحولت البوشية إلى حاضن ومطبق لها .
وتمثلاً للنهج “الصقوري” في التعامل مع الفكرة العربية، نجحت حرب بوش في توجيه ضربة قوية إلى تيار العروبيين الذي حكم العراق منذ ولادته وحتى عام 2003 . وعند انسحابهم من العراق، سلّم الأمريكيون الحكم إلى نوري المالكي الذي لم يكتم معاداته لهذا التيار ورغبته في استئصاله والقضاء عليه بما يمثل من أفكار وأحزاب وشخصيات بارزة . من أجل النجاح في هذه المعركة التي يخوضها المالكي بقصد الاستمرار في الحكم، فإنه يفضل تقديم كل التنازلات إلى القوى الخارجية المؤثرة في العراق، وخاصة واشنطن وطهران، على أن يقدم التنازلات إلى قوى محلية فاعلة في البلاد . من هذه الناحية فإن الحرب الأمريكية ضد العراق مستمرة، مع إضافة بعد إيراني إليها