محكمة لتاريخ النفط .. في العراق الحديث
بعض الأحلام بسيطة جداً .. وقابلة للتحقّق .. مثلاً : تأسيس محكمة لتاريخ النفط في العراق الحديث .
محكمة نضعُ في اقفاصها ، ونحاكم من خلالها ، كلّ الأشخاص الماديّين والمعنويّين ، الذين تعاقبوا على ادارة العائدات النفطية ، بحيث تتم مساءلتهم ومحاسبتهم عن كلّ بِنْسٍ وسَنْتٍ وفِلسٍ قاموا بأنفاقه منها .. منذُ أن تدفقّتْ أولُّ قطرة نفطٍ فوق تراب العراق ( في عام 1927 ) وإلى هذه اللحظة .
تأسيس محكمة لتاريخ النفط في العراق الحديث . ليس هنا .. بل في بلاد اخرى تحترم نفسها ، وتحترم قضايا ، وموضوعات ، وانشغالات ، كهذه . محكمة يُنجِزُ أوراقَ التحقيق فيها ، لا سياسيين لصوص ، ولا ملوك طوائف ، ولا تجّار حروب ،ولا " مقاولين " متطفّلين على موائد هؤلاء اللئام .. بل باحثين ومهنيّين ومهتمّين بهذا الشأن .. يؤمنون بأنّ هذه القضيّة هي جزء من همّهم الشخصي ، ووظيفتهم المعرفية ، وجهدهم الأكاديمي ، وتعبهم النبيل ، المُنَزّه عن أيّة غاية مُلتبِسة ، أو هدفٍ نفعيّ ، أو تخادُمٍ مصلحيّ .
إنّ " المجرمين " بحقّ العراق ، هم ليسوا فقط ، أولئك الذين ارتكبوا جرائم حرب ، أو جرائم إبادة ، أو جرائم ضد الأنسانيّة .. بل هُم اولئك الذين استخدموا الريع النفطي لإنتاج ، وإعادة انتاج ، الطغاة واللصوص والقتَلَة . هؤلاء الذين اوغلوا بمالنا ودمنا ، وانتهكوا كرامتنا ، وهتَكوا اعراضنا ، وفرّطوا بأرضنا ومواردنا ، وأضاعوا علينا مائة عام من التنمية والرفاه والتحضّر .
هؤلاء هم من ينبغي وضعهم في " الأقفاص " ، وتوجيه التُهَم إليهم بأثرٍ رجعيّ . تُهَم الخراب الطويل الأجل التي لا تسقطُ بالتقادم ، ولا يطويها نسيان التواطؤ ، مع الذين أهدَروا فُرص الحُلم بعيشٍ أفضل ، في هذا البلد المتخم بالخيرات والإمكانات والمواهب .
إنّ كلّ جذور خرابنا الراهن ، قد تمتْ سقايتها ورعايتها ، عن طريقِ إنفاقٍ حكوميٍّ أرعنٍ ، ويفتقرُ الى الكفاءة والإنضباط والحساب الإقتصاديّ السليم .
إنّ " أرشيف " الأنفاق العام ( لكلّ بنسٍ و سنتٍ وفِلسٍ ودينارٍ ودولارٍ ) من موازنات العراق " الباذخة " .. لم يتلَفْ أو يندَثِرْ بعد .
أمّا ما يمنحُ " الحصانة " من المساءلة ، و يمنعُ السَوْقِ إلى المحاكم ، فهو إدراكُ اولئكَ الذين ارتكبوا جرائم الهَدر ، بأنّ لا أحد يمتلك الجرأة الآنَ على تقليبِ الدفاتر ، والقيود ، والمواجع ، في هذا البلد المقهور ، المغلوب على أمره . وهكذا فقد ترك هؤلاء اللصوص " المبتدئون " كلّ شيءٍ على حاله ، لأنّهم لا يعرفون أنّ لـ " البيانات الماليّة " ذاكرةً عصيّةً على النخر ، وشفرةً غير قابلةٍ للكسر .
وبإيهامنا بأنّهم " أقوياء " .. تناوبَتْ فيالق الأنذال على " نهبنا " في مراحل انحطاطنا المتعاقبة والسريعة ، والقصيرة الأجل . وهكذا اختلفت الأسماءُ والنُظُمُ والعقائد ، بينما ظلّ تقرير مصائرناً رهناً بأشدّ القوى ظلاميّةً ، وبطشاً ، وتخلّفاً ، في هذا العالم .
وعندما تنتهي " المرافعة " ، وتُرفعُ الأقلام ، وتجِفُّ المصاحف ، وتَبْرَدُ سنوات الجمر .. ربما سنكونُ قد وضعنا اقدامنا على الطريق الصحيح نحو تحقيق شيءٍ من الأنصاف للضحايا .. وشيءٍ من القصاص العادل لمن أصبحوا ، على حين غفلة ، ولاة أمرنا لقرنٍ كاملٍ من الموت والظُلمة والعبث .
عندما تنتهي " المرافعة " .. سنقرأ اسماءهم واحداً واحداً .
بعضهم .. سنعيدُ اليهم اعتبارهم .. ونُشيدُ بما عملوا و أنجزَوا.. ونصحّحُ لهُم غُبن التاريخ .. وظُلمَ الوقائع الكاذبة .
وبعضهم .. سنُلْحِقُ بهم العار .. بكل الوسائل الممكنة