في العاصمة الأردنية عمان وبدعوة من مؤسسة عبدالحميد شومان ألقى المؤرخ والباحث التاريخي الأستاذ الدكتور حسين أمين محاضرة قيمة عن أصالة العراق في التاريخ مساء يوم الاثنين الموافق 16 مايو 2011 حضرها جمع كبير من المثقفين والمؤرخين والأكاديميين العرب والعراقيين، استعرض فيها المحاضر دور العراق الريادي في التاريخ، وتوصل إلى استنتاجات مهمة في ضوء استعراض قراءات وشواهد تاريخية وقرائن لاهوتية وقرآنية مهمة، كان منها ما يدعم فرضية أن جنوب العراق اليوم وبالتحديد منطقة القرنة حاليا ملتقى دجلة والفرات، هي مهبط أبوي البشرية آدم وحواء عليهما السلام الى الأرض وبدء البشرية، في حين أن أصل الديانات والسلالة النبوية المرتبطة بولادة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام كانت في العراق، وان السومريين أسسوا أول تجمع سكاني ومدني في التاريخ في عاصمتهم «أور» التي تطل على خليج العرب، ناهيك عن دور العراقيين وإسهامهم الحضاري في إبداعات الحرف والقلم والقانون والحكمة ومدارس الفقه والكلام، وأن العراق هو جمجمة العرب كما قال عمر بن الخطاب.
وبين ما يتعرض له العراق اليوم من مخططات ومؤامرات تستهدف هويته ووحدته ودوره التاريخي، وبين ما ذكره المؤرخ من حقائق لحقبة تعود الى آلاف السنين قبل الميلاد علاقة وثيقة. العراق - الذي كان مهداً لست إمبراطوريات حاكمة في التاريخ - يتعرض اليوم في ظل الاحتلال الأمريكي وممارساته لسياسات التقسيم والمحاصصة الطائفية وثقافة استهداف الهوية ومسخ الأصالة وإبادة العلماء والكفاءات وتحطيم المتاحف والمكتبات ومراكز التوثيق والمخطوطات والآثار التي تشكل كلها خطوات لإضعافه وتدمير بنيته التاريخية والحضارية والفكرية وترسيخ نهج العنف والفساد وجرائم الإبادة الجماعية وتدمير البنية التحتية الخدمية اللازمة للعيش والحياة فيه وتهجير شعبه ومكوناته.
ظاهرة عزل العراق عن حاضنته العربية وكونه دولة خليجية انتماء تاريخيا وجغرافيا، ظاهرة تجذرت حديثا وطفت واقعا سياسيا فرضته أحداث وصراعات وأزمات بين الأنظمة الحاكمة في حقبة زمنية مضت لا تمت بصلة الى واقع التشابه والصلة بين الشعوب وتاريخها المشترك ولا تخدم مستقبل العرب أو الأنظمة الحاكمة في هذه المنطقة الاستراتيجية المهمة جغرافيا واقتصاديا، وقد أصبحت موضع استهداف قوى إقليمية ودولية تعمل بكل جهد وتصميم على تغذية مشاريع التشظي والعداء والضعف بين اقطارها تمهيدا لاحتلالها واستغلالها واستثمارها.
احتلال العراق وتبعياته وتعقيداته وأحداث البحرين وتنامي النفوذ الايراني في المنطقة وارتباط المصالح الامريكية والغربية الصميمية بأمن الدولة الصهيونية في المنطقة واستمرار آليات تنفيذ مشاريع التشظية والتقسيم التي يستهدفها مشروع الشرق الأوسط الجديد لضمان أمن إسرائيل فيها تشكل جميعا نواقيس خطر داهم يهدد العرب ويستهدف كيانهم.
التحديات التي تحيق بالمنطقة يمكن استعراضها على عجالة، فإسرائيل من خلال خطاب نتنياهو أمام الكونجرس الأمريكي بعد خطاب اوباما التصحيحي الأخير لصالح إسرائيل، أعلن أن لا تنازل عن القدس ولا عودة الى حدود ما قبل الرابع من يونيو عام 1967 ولا اعتراف بدولة فلسطينية توافقية مع تأكيد يهودية إسرائيل، مما يستبعد امكانية ايجاد حل تفاوضي أو سلمي للقضية الفلسطينية المتحكمة في عدم استقرار المنطقة في المستقبل القريب، فيما تحسب الولايات المتحدة الامريكية أن امن إسرائيل في المنطقة يشكل أسبقية حيوية لكل ما تعد له من مشاريع بشأن مستقبل المنطقة وبضمنها مشروع الشرق الاوسط الجديد الذي شكل احتلال العراق اول صفحاته.
تصدير الثورة وأطماع إيران الفارسية في الخليج تتجاوز اطماعها في العراق وما حققته فيه كما اتضح بعد أحداث البحرين، إذ لم تتردد مفاصل النظام في إيران عن إلافصاح عن تدخلها واطماعها في البحرين سواء من خلال التصريحات او من خلال التهديدات والتدخل المباشر في أحداثها الأخيرة التي ما كان بالإمكان ان يتخذها هذا النظام لو لم يتحكم بنفوذه الواسع في العراق ونجاحه في تحقيق عزله وانسلاخه عن محيطه وامتداده العربي والخليجي.
كما أن الاختراق الأمريكي والغربي الفاضح لثورات الشباب في اقطار عربية عديدة وضبابية النتائج لصالح الشعوب الثائرة والواقعين الفلسطيني واللبناني واحداث اليمن وليبيا وسوريا الدموية تثقل بكاهلها وانعكاساتها جميعا على المنطقة، وأصبحت تشكل تهديدات بدلاً مما كانت توحي به من ايجابيات على حاضر الأمة ومستقبلها. يبقى الخليج العربي وأمنه واحدا من اسبقيات أمن العرب وقوتهم بسبب اهمية موقعه وثروته النفطية والاقتصادية فلا يمكن فصله او تحييده امام هذه التحديات والمستجدات.
مجلس التعاون الخليجي الذي تمر هذه الايام الذكرى السنوية الثلاثون لتأسيسه في 25 مايو عام 1981 الذي أريد له ان يلعب دورا اقتصاديا وسياسيا ودفاعيا موحدا يعزز من أمنه وتنميته، ينبغي لقياداته اليوم أمام التحديات المستجدة ان تعيد النظر لتفعيل الهدف المنشود منه وهي كما يبدو فاعلة من خلال توجهات بعض دول المجلس الاخيرة لتوسيعه وترصين امكانياته بالانفتاح على أقطار عربية أخرى، لكن المهتمين بشأن أمن المنطقة والحرص عليها يتطلعون الى موقف شجاع وحكيم لدول المجلس يتجاوز الأخطاء والأحداث والمواقف السياسية السابقة وما ترتب عليها من محن ونكبات، والتعامل مع المستجدات والتحديات القائمة بروح من الواقعية والمسؤولية في ضوء ثوابت وحقائق تستند إلى حقيقة ان الخطر الايراني الفارسي يتفاقم، وان أمن العرب في الخليج لا يمكن تحقيقه او ان يتكامل من دون الحرص على عودة العراق العربي الخليجي الى حاضنته وانتشاله من أزمته والوقوف مع أهله للخلاص من محتليه، ليستعيد قوته وعافيته وهويته وعروبته ودوره التاريخي في الصمود امام التحديات المتفاقمة والأخطار المحدقة بعرب الخليج وأمنهم.
يبقى العراق تاريخيا وجغرافيا وتكوينا وثقافة وهوية عربيا خليجيا وحصنا منيعا لأمن العرب ووجودهم شئنا أم أبينا.
كاتب وسياسي عراقي