يتضاءل إهتمام الإعلام الأمريكي بالعراق تارة أو يتصاعد حسب الصراعات الداخلية هناك، وحسب حاجتهم لتغطية تغيير سياستهم جزئيا بين حين وآخر، وهي السياسة التي إستعادت توافقيتها بين ما يسمى بالليبراليين والمحافظين، 'الواقعيين' منهم والجدد. وتطغي في لغة هذا الأعلام بعض الكلمات لفترة ما ثم تختفي ثم تعود للظهور بتركيز على بعض العبارات دون غيرها.
فمثلا اختفى، في الفترة الاخيرة، مصطلح الديمقراطية من خطاب الاحتلال الامريكي، بعد ان كانت الديمقراطية هي الشراب الرئيسي الذي أريد للعراقيين، ان يتذوقوه ويتعودوا عليه، في صفقة الرضا بـ 'التحرير'، غطاء للصفقة الأصلية حول منح النفط باسعار رمزية او فتح الباب للسيطرة على مصادر الطاقة. وشهدت الفترة ذاتها استعادة الاهتمام بخطاب المحافظين الجدد، ومفهومهم المحدد والمحدود لـ'الديمقراطية'، خلافا لما هو شائع عن اندحارهم الفكري وتراجع مشروعهم، بعد صعود أوباما، وسياسته المعلنة حول مساعدة البلد المضيف، اي العراق، في المسار الديمقراطي. فعلى الرغم من ان ادارة اوباما لاتزال موجودة، خفتت مصطلحات دعم بناء الديمقراطية (بضمنها تطبيق نتائج الانتخابات مهما كانت شكلية) وتأسيس حقوق الانسان، وإنهاء الإحتلال، لتحل محلها مصطلحات 'الحرية' و'الأمن'، وهي ذات المصطلحات التي يفضل المحافظون الجدد استخدامها كواجهة للاحتلال والهيمنة.
وقد لخص رونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الامريكي السابق، وهو الأكثر صراحة في كلامه من آخرين، في كتابه 'المعلوم والمجهول' الصادر هذا العام، موقف المحافظين الجدد من قضية 'بناء الديمقراطية' بايجاز ووضوح خاصة فيما يتعلق بأهمية بقاء القوات الامريكية حتى 'انجاز عملنا' ، قائلا: 'كنت آمل ان يتجه العراق نحو شكل من اشكال الحكم التمثيلي، وان اعتقدت اننا بحاجة إلى أن نكون واضحي الرؤية حول آفاق الديمقراطية في البلاد'.
واقترح رامسفيلد على الرئيس بوش وكوندليسا رايس، وزيرة الخارجية حينئذ، ان تقلل الادارة من 'الرطانة حول الديمقراطية' ليكون الخطاب مركزا اكثر 'عن الحرية وأقل عن الديمقراطية'. وهذا ما نشهده، حاليا، في العراق وافغانستان. وكأن ادارة اوباما لم تعد بحاجة الى التلفع برداء 'الديمقراطية' وهي تعاني من وضعها الاقتصادي المتأزم بالاضافة الى انحسار شعبية اوباما وقدرته 'الخارقة' على التغيير، محليا وعالميا، فضلا عن، وهو الاهم من ذلك كله، الى ان العديد من البلدان العربية الحليفة لأمريكا، سرا أو جهارا، قد سقطت أو مهددة بالسقوط بالأنتفاضات الديمقراطية الشعبية الأصيلة. من هنا نشأت حاجة الادارة الامريكية الى القبول بتسلل منظور المحافظين الجدد بعد غياب، في ساحات الحروب والاحتلال. ومن هذا المنطلق علينا فهم التغير التدريجي في سياسة ادارة اوباما حول انسحاب القوات الامريكية من العراق (ولنترك افغانستان جانبا) واذا ما كان انسحابا كليا او جزئيا مع معرفتنا بان كليهما يعني، في الواقع، زيادة دور السفارة الامريكية كبديل للقوات العسكرية المقاتلة بالاضافة الى زيادة عدد المتعاقدين الأمنيين (المرتزقة) وما يتطلبه ذلك من هيكلة للمؤسسات والمنظمات العراقية المكرسة للسياسة الامريكية. ان موقف الادارة الامريكية المتمثل بوزارة الدفاع (البنتاغون)، هو 'أن الوضع في العراق ما زال هشا، وأن المكاسب الأمنية التي تحققت خلال العام الماضي يمكن ان تضيع إذا تم الانسحاب بشكل سريع'. اما وزارة الخارجية فانها حذرت من ان عدم المطالبة ببقائها بسرعة يعني ان الفرصة قد تفوت على حكومة المالكي. مما يعني ان هناك تشابها مع موقف المحافظين الجدد الداعي الى البقاء العسكري. فما هو الاختلاف اذن؟
في مقالة 'قفوا مع العراق' التي نشرت في 18 نيسان/ابريل من العام الحالي في صحيفة 'ويكلي ستاندارد'، الناطقة باسم المحافظين الجدد، نقرأ بعض ما نسمعه الآن من قبل ادارة اوباما الليبرالية (هل تتذكرون كم بدا اوباما مختلفا عن بوش في وعوده؟)، مع اختلاف في وضوح الخطاب وبعده عن المناورة 'الديمقراطية'، واعتبار ان للامريكيين حقا في جني ثمار الاحتلال الذي دفعوا ثمنه غاليا، حيث جاء في المقالة: 'لا شيء يقتضي الحفاظ على أعداد هائلة من القوات الأمريكية في العراق. عشرون ألف جندي سيكون كافيا لعدة سنوات مقبلة. هذا العدد هو أقل من الوجود العسكري الأمريكي في كوريا الجنوبية واليابان وألمانيا، ولن تشارك هذه القوات في القتال بل تواصل ما تقوم به القوات الامريكية اليوم من التدريب وحفظ السلام ودعم قوات الأمن العراقية، ومكافحة الإرهاب. كما أنه ليست هناك أية حاجة إلى ضخ الأموال الى العراق لدعم تحديث وتطوير قوات الأمن. فالعراق لديه اكثر مما يكفي من المال ليدفع مصاريفه بنفسه. ان ما يحتاجه العراق هو المدربون والموردون الأجانب، وقبل كل شيء، المؤيدون.
ان تمديد الوجود العسكري الامريكي في العراق لن يكون التزاما بحرب لا نهاية لها أو بنفقات كبيرة، بل سيكون جنيا لمنافع سددت الولايات المتحدة ثمنها اموالا ودماء'. ويشيد المحافظون الجدد بنوري المالكي وكيف انه حاول اضعاف النفوذ الايراني وانه يستحق كل الدعم من ادارة اوباما التي لم تأخذ زمام المبادرة بشكل جدي ضد التدخلات الايرانية، وتشير المقالة الى ان 'الكرة ليست في ملعب المالكي. انها الآن في ملعب أوباما. إذا كانت الإدارة تدرك أن خدمة المصالح الأمريكية في العراق وجميع أنحاء الشرق الأوسط تتم عبر دعم عراق مستقل ودعم طويل الأمد للعلاقة بين البلدين فيجب على البيت الأبيض أخذ زمام المبادرة'. هنا يستوقفنا سؤال عن ماهية المبادرة التي يتحدث عنها المحافظون الجدد ويرون فيها خدمة قصوى للمصالح الامريكية، وما هو موقف حكومة المالكي منها؟
يقول المحافظون الجدد: 'يجب على الادارة وقف اعطاء الاشارات بانها تستطيع' اخذ 'العراق او تركه. عليها بدلا من ذلك، التأكيد على تصميمها الوقوف إلى جانب زعماء العراق مادام اولئك القادة يقفون مع العملية الديمقراطية التي تحقق قدر ضئيل منها حتى الآن وماداموا يلتزمون بالسلام العرقي والطائفي الذي تحقق بتكلفة عالية. يجب على الإدارة أن توضح للأكراد بأن أمريكا لن تدعمهم ، الآن أو في المستقبل، إلا إذا ألقوا بثقلهم وراء الاتفاق الجديد بين واشنطن وبغداد. كما يجب على الادارة دعوة الأتراك والسعوديين للمساعدة في موازنة الضغوط الايرانية على القادة العراقيين'.
كما أكد الجنرال راي اوديرنو، قائد قوات الاحتلال في العراق سابقا والمرشح، حاليا، لقيادة الجيش الامريكي، امام لجنة الخدمات المسلحة في مجلس النواب الامريكي، على وجوب تزويد 'العراق بكل المساعدة الممكنة لمواجهة التدخل الايراني'. وبصدد تمديد بقاء القوات الامريكية في السنوات المقبلة، قال اوديرنو: 'ان القرارات يجب الا تستند على تقديرات العراق لوحده حول ما يحتاجه. وان مسؤولين امريكيين وعراقيين قد توصلوا الى تقييم مشترك للثغرات المتوقعة في القدرات الامنية العراقية في فترة ما بعد 2011'.
بالمقابل، ما هو موقف المالكي وحكومته؟ المالكي مشغول بالتجول في اسواق شنغهاي. ويركز الوزراء والنواب جهودهم، حين لايضرب بعضهم البعض بالعصي او توجيه اللكمات والاتهامات بالفساد، على التصريح عن اجتماعات ماراثونية يتم فيها 'بحث تفعيل الشراكة الوطنية وتفعيل الاتفاقيات السابقة بين الكتل السياسية'، نقلا عن تصريح، يمكن اعتباره نموذجا، لميسون الدملوجي، الناطقة باسم القائمة العراقية. كما يركز الوزراء جميعا على بدعة 'الترشيق' الوزاري واحتمال بحث تقليص مخصصاتهم تاركين جانبا قضية تمديد بقاء قوات الاحتلال بحجة انهم 'غير مطلعين على خصوصيات الوضع الامني'. في ذات الوقت، تواصل القوات الايرانية والتركية قصف القرى العراقية بحرية لامثيل لها، وتواصل الكويت تشييد ميناء مبارك الذي سيغلق منفد العراق المائي الوحيد، وتحذر تقارير الامم المتحدة (اليونسيف) من ان العراق لم يعد صالحا لعيش الاطفال وان المعتقلات والتعذيب وقمع الحريات لم يعد بالامكان السكوت عنها (حسب منظمة هيومان رايتس ووتش)، وان احكام الاعدام صدرت بحق 291 شخصا، متهمين بـ 'الارهاب'، من قبل محاكم تفتقر الى ابسط شروط العدالة.
ان ادارة الاحتلال التي حولت العراق الى ساحة مفتوحة للصراع والاقتتال مع القوى الاقليمية تدرك جيدا بأن انتصارها الحقيقي لن يتم الا اذا قضت اولا على المقاومة الوطنية وثانيا عبر الصفقات الإقليمية مع إيران وتركيا والسعودية، وصفقات يحاولون تمريرها للمنطقة ككل مع إسرائيل. فهل من المستغرب اذن، وحالنا على هذه الشاكلة، ان يدافع المحافظون الجدد عن المالكي باعتباره الاصلح لحكم العراق في مرحلة يرون فيها 'ان السياسة الامريكية لم تعد حول 'انهاء هذه الحرب' فهذه الحرب انتهت منذ فترة طويلة. لكن القتال من اجل العراق ومن اجل مكانة امريكا في جزء مهم من الشرق الاوسط الكبير مستمر. انه قتال يجب على ادارة اوباما تحقيق الانتصار فيه'.
' كاتبة من العراق