مركز دراسات الاستقلال
العراق بين إستحقاقين
ملاحظات لابد منها حول خيارات الحركة الوطنية العراقية ما بين إلانسحابين
د . خالد المعيني
يمكن وصف الفترة الزمنية المحددة لانسحاب القوات الرئيسية الأمريكية المزعوم من العراق والتي ستمتد ما بين آب 2010 – كانون الأول 2011 بمثابة اختبار قاسي لكشف النوايا والقدرات الحقيقية لكافة اللاعبين الرئيسيين والثانويين على حد سواء في الساحة العراقية حيث لا تزال كافة الاحتمالات مفتوحة .
وفي الوقت الذي يحاول فيه كل طرف من هذه الأطراف إعادة تعريف مصالحه على ضوء ترتيب أولويات المخاطر والتهديدات نتيجة لهذه الانسحاب وما سيطرأ من متغيرات فعلية في ميزان القوة على الأرض ، فإن الحركة الوطنية العراقية بكافة أطرافها هي أيضا بدورها مدعوة للتحسب ومناقشة هذه الفترة الحرجة والحساسة من منحنى الصراع الدامي والمتفاقم في العراق.
وعلى الرغم من خطورة الموضوع وعدم قدرة طرف لوحده الإمساك بكافة تفاصيله لتشعبه وتعلقه بحسابات وكشوفات الكلفة والمنفعة ودراسات معمقة تعتمد على تحليلات ومسوحات علمية وموضوعية لكل من البيئة المحلية والإقليمية والدولية وما طرأ عليها بعد "سبع" سنوات إضافة لتقييم واقع حال وإمكانات ركائز الحركة الوطنية وقدراتها السياسية والعسكرية ، لكن كل ذلك لا يمنع من تأشير وإثارة بعض الملاحظات التي لابد منها لعلها مفيدة في تنشيط وتحفيز أصحاب الإرادة والقرار السياسي المعنيين في الشأن المقاوم الوطني العراقي :
أولا – يخطأ من يظن إن الإدارة الأمريكية ستترك العراق على غرار "اللحظة السايغونية " وعلى طريقة هزيمتها وانسحابها من فيتنام التي تعاقب على إدارة الاحتلال فيها أربعة رؤساء أمريكيين واستغرقت المقاومة لانجاز النصر ربع قرن . فمع ثبات أهدافها ومصالحها الإستراتيجية في العراق فإنها ستناور فقط بالوسائل وستحاول الحفاظ على ضمان هذه الأهداف بأقل الكلف وبالنيابة من خلال حكومات محلية موالية لها ومناورات وصفقات إقليمية .
ثانيا – في نفس الوقت لا يمكن إنكار نية الإدارة الأمريكية الجديدة نتيجة خسائرها في العراق وأفغانستان على سحب معظم قواتها من العراق وإن هذا الانسحاب قيد التنفيذ حاليا طبقا لما ورد في إستراتيجية أوباما لسحب القوات المعلنة في شباط 2009 أو على ضوء ما ورد في الاتفاقية الأمنية وانسجاما مع إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي .
ثالثا – تتخذ جميع الأطراف حاليا سلوكا على أساس بقاء الحال على ما هو عليه قبل الانسحاب أو ما يعرف " بطاقة الاستمرارية" في حين إن توازن القوة حتما سيتغير نتيجة تخلخل الضغوط وتفاوت القدرات الذي سينشأ ميدانيا في كثير من المناطق حيث ستزول أو تخف قبضة الاحتلال فيها .
رابعا – العملية السياسية الجارية في العراق وأقطابها ليست سوى صفحة سياسية لمشروع الاحتلال الأمريكي وهي واقع حال يعيشه الشعب العراقي ولكنه لا يعترف فيه ويرفضه وفي نفس الوقت يتطلع إلى البديل للخلاص منه على يد القوى الوطنية العراقية ، واستمرار هذه العملية سيؤدي بما لا يقبل الشك بالعراق إلى التقسيم والتجزئة أو تحويله في أحسن الأحوال إلى دولة مفككة هزيلة تتألف من كيانات متناحرة على السلطة والثروة .
خامسا – إن خيار المقاومة بمعناها الواسع العسكرية والسياسية والمدنية والقانونية ، هو الخيار الاستراتيجي للشعب العراقي للخلاص وما عداه خيارات ثانوية لأغراض المناورة وخاصة تلك المتعلقة بترقيع أو إصلاح العملية السياسية من الداخل التي أثبتت السنين فشلها وعدم جدواها وإنها ليست أكثر من نفاية من نفايات الاحتلال .
سادسا – العلاقة ما بين أشكال المقاومة هي علاقة حاكمة لا غنى عنها وهي تكاملية وليست تبادلية ، فلا قيمة للمقاومة السياسية بدون القوة الضاربة للمقاومة المسلحة التي لا يمكن حسم المعركة على الأرض بدونها وتعد رأس الحربة وهي التي هزمت القوات الأمريكية فعلا وأجبرتها على المغادرة ، وفي نفس الوقت لا قيمة للمقاومة المسلحة إلا في حدود تأثيرها ونتائجها السياسية والنفسية ومدى وضوح ونضج الفكرة التي تقف خلف السلاح وقدرتها للاستجابة للمستقبل والمجتمع .
سابعا – عدم إمكانية أي فصيل أو حزب أو جبهة حالية من إنجاز تحرير واستقلال العراق منفردا يرتب ضرورة العمل مشتركين وعدا العمل المشترك الذي لم يبقى مبرر لغيابه سوى الخلافات والحساسيات الشخصية وانعدام الثقة ، فإن معظم القوى ستتآكل وسيكون فعلها مهما كان مبتورا لا يرقى إلى الفعل الاستراتيجي الذي تحتاجه الساحة ، لذا فإن الجميع بإنتظار الولادة الكبيرة والحقيقية لجبهة القوى الوطنية المناهضة للاحتلال بركائزها المعروفة والتي يمكن التعرف عليها من خلال قوتها بدلالة الانتاج والتأثير السياسي والعسكري والاعلامي .
ثامنا – لا يمكن التأسيس للمرحلة القادمة وقيادتها بنفس قواعد وقوانين المرحلة التي مضت فهناك حاجة ماسة في ضفة القوى الوطنية على الأقل توحيد مساحة الخطاب السياسي وبالتحديد في كل من مفترقات الصراع الرئيسية لكي يجتمع عليها جميع العراقيين فيعرفون ملامح الخط السياسي بكل وضوح ويعرفون إلى أين يسيرون ولزيادة مساحة الأمل لديهم وبغياب الخط السياسي الموحد سيغري ذلك كثيرا من المتاجرين بقضية العراق لطرح مشاريع تتراوح ما بين المراهقة السياسية التي لم تستكمل عناصر النضج ، وما بين جبهات وهمية من الدكاكين ذات الحمل الكاذب ، والتي يعني استمرارها خلط الأوراق على الشعب العراقي في الداخل وفي الخارج على الساحات التي تتواجد فيها القوى المقاومة الرئيسية مستغلين غياب مرجعية سياسية وطنية موحدة .
تاسعا – هناك حاجة في ضفة القوى الوطنية لإنتاج أفكار جديدة وحاسمة وبلورة تصورات ورؤى واقعية وعقلانية لان هذه الأفكار هي من سيصيغ المستقبل ويحدد حركته ، فحركة المقاومة الوطنية العراقية ليست حركة عفوية بل حركة منظمة متشبثة في المستقبل ومؤمنة بحتمية النصر عبر العمل الدؤوب .
عاشرا – إذا كانت الأهداف الإستراتيجية للحركة الوطنية العراقية في هذه المرحلة استقلال العراق الناجز السياسي والعسكري والاقتصادي ووحدة البلاد أرضا وشعبا وهوية العراق العربية والإسلامية ، فإن الهدف الجوهري والأساسي الذي ينبغي السعي نحوه ووضع التصورات حوله ، هو تحديث المجتمع وتحرير العقل والإنسان على حد سواء وكيفية بناء دولة مدنية عصرية تؤمن بمعايير الكفاءة والوطنية .
في الختام فإن تجارب الشعوب تشير بما لا يقبل الشك إلى إن من يفوز في الصراع هو من يطاول أكثر ، ولكي يطاول عليه أن يمتلك الإرادة ، والإرادة تقوم على امتلاك قضية عادلة واضحة الأهداف والمعالم التي تقوم بدورها على المعرفة والوعي ، كما إن الطرف الذي يعد نفسه للمستقبل ويمتلك خططا له هو الأكثر حظوظا للامساك بمقاليد المستقبل .