بعد أكثر من ثمان سنوات من الاحتلال الغاشم، انسحب آلاف الجنود الأمريكيين من العراق، وذلك ضمن الاتفاقية الأمنية الموقعة بين حكومة المنطقة الخضراء وإدارة البيت الأبيض الأمريكي، في نهاية عام 2008، التي أُرغمت أمريكا على توقيعها؛ بفعل ضربات المقاومة الباسلة.
والمشكلة التي تواجه المتابع للشأن العراقي هي في كيفية التعامل مع مصطلح "الاحتلال"، هل نتوقف عن استعمال هذا المصطلح في المقالات والبحوث والأخبار المتعلقة بالشأن العراقي، أم لا؟
المسألة ببساطة هنالك من يقول: أنّ القوات الأمريكية قد رحلت من العراق، فينبغي أن يتغيّر الخطاب، ونترك تسميتها باسم "القوات المحتلة" أو "الغازية"، أو غيرها من المصطلحات التي تصف حقيقة الخراب والدمار والقتل والإرهاب الأمريكي بحق العراق وأهله.
وهذا الكلام يمكن تقبُّله فيما لو انسحبت القوات الأمريكية بصورة نهائية من العراق، لكن واقع الحال على خلاف ذلك تماماً، والمعلومة المتوفرة لديّ، من ضباط عراقيين في الجيش الحالي، تؤكد وجود قواعد عسكرية أمريكية في معسكر التاجي شمال بغداد، وفي قاعدة البكر الجوية في محافظة صلاح الدين، وفي ما يسمى "إقليم كردستان العراق"، هذا بالإضافة لقاعدة المطار في بغداد.
وحتى لو افترضنا، جدلاً، أنّ القوات الأمريكية قد انسحبت بكامل أعدادها من العراق، فكيف يمكن التعامل مع مخلفات الاحتلال في مختلف الجوانب السياسية والدستورية والقانونية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والبيئية والصحية؟!
وهل نتلاعب بالمصطلحات حينما نتذكر الملايين من الشهداء والجرحى والمعاقين والمهجّرين واللاجئين الذين خلّفهم الاحتلال الأمريكي، وعشرات الآلاف من الأبرياء الذين أصيبوا بأمراض سرطانية وتشوهات خلقية مختلفة؛ بسبب استخدام الأسلحة المحرمة دولياً من قبل قوات الاحتلال الأمريكية في معركة "تحرير العراق"؟!
اليهود منذ عام 1942، يتغنّون بمحرقة "الهولوكوست"؛ لوصف الحملات المنظمة من قبل حكومة ألمانيا النازية، ولإظهار الاضطهاد والتصفية العرقية لليهود في أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية، ولم يلق هذا المصطلح انتشاراً واسعا حتى الخمسينيات، ومع السبعينيات أصبحت كلمة "هولوكوست" تستعمل لوصف ما يسمى حملات الإبادة الجماعية التي تعرّض لها اليهود على يد السلطات الألمانية أثناء هيمنة الحزب النازي بقيادة أدولف هتلر.
وهذه "المحرقة" المشكوك في صحتها، لا يمكن محوها من التاريخ اليهودي، بل إنّ الصهاينة يعتبرون مسألة الاعتراف بهذه المحرقة من الثوابت التي لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها!
الشعوب الحية هي التي تحتفظ بتاريخها الحقيقي وتحترمه، وإلاّ لا يمكن استنهاض الأجيال القادمة، ولا تربيتها على الوطنية الحقة، وعليه لا يمكننا أن نمحو من التاريخ العراقي الحديث جميع الكوارث التي أوقعتها القوات الأمريكية الهمجية المحتلة، وكل هذه الجرائم تمت بدفع وتشجيع من المنتفعين من الوطنية الكاذبة، الذين كانوا يسمّون أنفسهم المعارضة العراقية، وباستخدام القوة الدبلوماسية الأمريكية للضغط على هذا الطرف، أو ذاك.
ملخص الحكاية، أنّ الموضوع ليس موضوع انسحاب أو عدم انسحاب، على الرغم من أهمية خروج آخر مجرم عسكري أمريكي من العراق، إلاّ أنّ القضية تتعلق بحجم الإجرام الأمريكي الذي وقع في بلاد الرافدين، وسيبقى التاريخ الأمريكي الحديث ملطخاً بدماء العراقيين، وستستمر صيحات الثكالى، والأيتام مدوية في كل مكان؛ لتخبر الجميع بحجم الكارثة التي وقعت في بلادنا.
صبر العراقيين لا يمكن أن يكون بلا حدود، فكل من جاء مع المحتل مصيره، في القريب المنظور، الرجوع لأوكار العمالة والخيانة التي تربوا فيها؛ لأن العراقيين حريصون على وطنهم، ووحدته، وسلامة أراضيه، وتنظيم علاقاته الخارجية بالدول الأخرى، بعكس الحالة الشاذة السلبية التي تمر بها السياسة الداخلية والخارجية في بلاد تعيش حالة من "الديمقراطية الدكتاتورية".
حقا ما أروع انتظار أمل النور بعد قهر الظلام.