أنساب راياتكم
ذكرى محمد نادر
التصريح الذي أطلقه الشيخ سالم الضباب كبير عشيرة بني ربيعة وشيبان بالتبرؤ ممن لا يلتحق بثوار العراق، اثر مشاهدته دموع الأمهات تتقاطر حزناً، وهن يترجين نظرة لوجوه أبنائهن في سجون حكومة المالكي السرية، أثار زوبعة بقوله: لن يليق “عكال الرأس” علينا، والعراقيات يُشتتهن الُضر، ويوجع قلوبهن أسى سؤالٍ عن ولد. وأقسم أنه لهن نصير، فأرسل راية حفيد الشيباني الذي قال في ملاقاة الفرس، ليذل راية كسرى يزدجر “درفش كافيان” في واقعة ذي قار الشهيرة: يا قوم مَهلكٌ مَقدوْر، خيٌر من نجاءٍ مَعرُور.
وانطلق بها حجيج الثورة، نحو مضارب ساحة الأحرار بالموصل، لتُشهدهُ على النصرة، إيفاء بقسم قطعه على نفسه، للأمهات العراقيات.
الجمعة الماضية، وأمام كاميرا قناة الشرقية، أعلن المتظاهرون في ساحة التحرير في بغداد، وفاة واحدة من الامهات وهي تحمل صورة ابنها تستعطف به سجانٍ غَلُظَ قلبه، حملت وصيتها أم أخرى، رفعتها أمام الشاشة. ولو كان للكاميرا شفاه لروت عن دموع حسرتها وضباب أنفاسها الأخيرة على صورة ابن ودعته بفراق موت، وقبل آخر أنفاسها، انتدبت لموتها ذمة الشيخ سالم، واستوصته بالولد خيرا: فأبلغوا الشيخ سالم بآخر كلماتها على ثيابك... يا يمة... انثر دموع!
ومضت.
جف نبضها وبحضنها صورة ولد، بذمة سجون سرية!
راية الشيخ سالم الداخلة بمهابة ساحة الأحرار في الموصل، ذكرتني بأنساب رايات العراق، في ثورة العشرين بإرث مخلد لرجال عاهدوا الوطن على تحريره من محتل بريطاني قديم عاد بثياب جديدة.
ذكرتني بمعارك الرارنجية، بالصدور العارية، والعصي والسيوف واجهوا بها مدفعاً بريطانياً، وغنموه ليقصفوا به باخرة “فاير فلاي” في 17 آب 1920 ليغرقوها بشط الكوفة. حينما بالأيدي المجردة حطم الثوار طائرة حرب يوم 8 أيلول 1920 وأسروا راكبيها، فاستشاط “السير برسي كوكس” غضباً.
وبأنساب الثوار كُتب عن الشيخ حبيب الخيزران شيخ عنزة، حين هاجم مقر الحاكم العسكري في بعقوبة ففَرَ، قبل أن تدركه الخيل ورُفع علم العراق فوق دائرة البريد.
وفي هذه الأنساب بطولة الشيخ ضاري المحمود، الذي قتل لجمن الضابط البريطاني الطاغية فاستشاط “السير برسي كوكس” غضبا، ووضع لرأس هذا الشيخ الزوبعي، مكافأة، لمن يلقي عليه القبض حيا أو ميتا، لما كلف جيشه من إهانة.
تروى الحكايات عن “محمد سعيد الحبوبي” ثائراً وشاعراً مقاتلاًَ، وحالماً بهيبة وطن. وفي شجرة عائلة ثورة العشرين نسب آخر للشيخ “علي الفضل” الذي وقف أمام محكمة عدوه، ليتحمل وحده مسؤولية الهجوم على مقرات المحتل ضارباً، بعصاه طاولة الحاكم العسكري بمدينة الناصرية، مستهزءا بحكم الاعدام فتطايرت أوراق الحُكم، رافضاً طلبَ التماس تخفيفه لمؤبد، وخوفا من غضبة الجماهير نفي إلى الهند.
فيه مشهد لمعارك العارضيات، حينما هاجم الثوار قطار الامدادات العسكرية، فأحرقوه وقُضي الأمر للثوار فوقع 80 من ضباط بريطانيا، وهنود وسيخ، بين أيدي الثوار، ليقتادوهم أسرى نحو خان الشيلان بالنجف، حيث قضوا وقتهم بكتابة أسمائهم فوق حيطان الخان، يلوكون هزيمتهم، ويتبادلون الحسرات. ولا تزال الجدران تحفظ تلك التواريخ.
في النسب الكريم لثورة العشرين، سنجد فطرة سليمة امتلكها الشيخ بدر الرميض كبير عشيرة البوصالح، عندما رفض فتوى معمم اكتراه محتل، فلعنه الله والوطن، تقضي فتواه، بوقف محاربة جنود المحتل، فرفض وحمل سلاحه وركب معه الفرسان لحمل رايات الوطن.
نسب الثورة يذكر في آخر الهامش وبذيل الصفحة، أسماء من خانوا، ممن لم يتوفقوا بصعود الطائرة التي حملت جيوش بريطانيا، فبقوا وعلى وجوههم ذل عار وانمحاء أثر. ويذكر من دل على الثوار مقابل أموال، التاريخ لا يغفل الأحداث، لكنما حبره يختلف، حينما يسلسل حديثه عن الشرفاء، ويظلم وجه الكلام حينما تأتي الأخبار بأسماء العملاء، فيشحب وجهه ويكز القلم على أسنانه!
التاريخ لا ينسى أن عشائر الكرد، من قبائل الجاف، وكويان، والسورجي، وراما، وسانجا، قاتلوا كعراقيين كتفا لكتف مع إخوانهم. إنه يكتب بفخر كيف التحمت أسلحة الوطن، فالة، ومكَوار، وسيف، وبندقية لأجل عراق يتسع بمحبة للجميع.
فنسب الثوار، يومها امتد من العراق إلى العراق.
الأم التي لم تجد قربها ابناً ليسدل أجفان موتها، لم تسمع نشيجه يتلو عليها تكبيرات الوداع، وسورة الفاتحة، فقضبان السجن اليوم تتسع لمن يدافع عن وطنه!
لتقر عينها، فوصيتها وصلت إلى الشيخ سالم الضباب، والشيخ بركات الفارس وغيرهما من شيوخ العراق: ومشكول الذمة من لا يحمل راية الوطن